علي جرادات
في جديد التصريحات والخطوات العملية التي ما انفك يطلقها الثلاثي كوشنر وجرينبلات وفريدمان، حدد الأول الأسبوع القادم موعداً، لاتخاذ قرار أمريكي؛ يقضي بقبول اللاجئين الفلسطينيين البقاء في البلدان التي يتواجدون فيها، والكف عن المطالبة بالعودة إلى ديارهم، التي شردوا منها. أما الأخير، فريدمان، فبعد إعلاناته المتكررة حول (حق «إسرائيل» في ضم أجزاء من الضفة الغربية)، شارك بنفسه، وبصورة استعراضية استفزازية، وأمام عدسات كاميرات الفضائيات، في عمليات الهدم الجارية؛ لإقامة نفق استيطاني تهويدي يمتد من المسجد الأرضي حتى بلدة سلوان؛ بل، وعقد المذكور مؤتمراً صحفياً دافع فيه، بصورة صريحة، عمّا سمّاه «حق اليهود التاريخي» في إقامة هذا النفق، وهاجم، بأشد العبارات، كل من يُشكك في «الوعد الإلهي» المزعوم لليهود في «أرض آبائهم وأجدادهم».
إن مشهد مشاركة هذا المستوطن بمرتبة سفير في أعمال الهدم لبيوت الفلسطينيين، وهو المشهد الذي بثته وسائل إعلام الاحتلال، ونقلته بعض الفضائيات العربية، لن يُمحى من ذاكرة كل مَن شاهده مِن الفلسطينيين؛ بل ومن العرب، عموماً. كيف لا؟ وهو المشهد الذي يكشف عن مدى العداء الرسمي الأمريكي للفلسطينيين، ولقضيتهم الوطنية؛ بوصفها جوهر الصراع العربي- «الإسرائيلي»، من جهة، وعن مدى التطابق في رؤية إدارات الولايات المتحدة وحكومات ربيبتها «إسرائيل» حول كيفية إنهاء هذا الصراع، من جهة ثانية.
لكن، وكي لا يصبح الفرع أصلاً والأصل فرعاً، فلنقل: منذ اتخذت الولايات المتحدة، برئاسة ترامب، في نهاية عام 2017، قرارها بشأن القدس، ناهيك عن قراراتها اللاحقة بشأن اللاجئين والمستوطنات، (عدا الجولان السوري المُحتل)، باتت «خطة ترامب» واضحة المعالم، ولم يعد الفلسطينيون، شعباً ونخباً قيادية، وفي الوطن والشتات، بحاجة لا إلى مشهد فريدمان هذا، ولا إلى المزيد من تصريحات الثلاثي كوشنر وجرينبلات وفريدمان المتلاحقة والمعادية لقضيتهم وحقوقهم ونضالاتهم وروايتهم الوطنية؛ كي يكتشفوا النتائج الكارثية، التي ترتبت على انخراط قيادتهم الرسمية، قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، طيلة 27 عاماً، في مشروع التسوية الأمريكي، مع ما تخللها من رهانات فاشلة ومُدمرة على الرعاية الأمريكية لمفاوضات «مدريد أوسلو» العبثية والعقيمة.
هذا يعني أن الفلسطينيين لم يعودوا بحاجة إلى براهين جديدة؛ كي يتيقنوا أنه إذا كان من التعسف إنكار أن ثمة أسباباً خارجية ساهمت في إيصال نضالهم الوطني إلى النتائج الكارثية التي وصل إليها، فإنه من التعسف، أيضاً، إنكار أن ثمة أسباباً فلسطينية داخلية لهذه النتائج، وأن جوهر هذه الأسباب الداخلية؛ يتمثل في إغفال قيادة الثورة الفلسطينية المعاصرة لثلاث حقائق أساسية؛ هي: الطبيعة التوسعية العدوانية ل«إسرائيل»، والطابع الوجودي للصراع معها، والسمة الثابتة للتحالف القائم بينها وبين دول الاستعمار «الغربي»، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. وبكلمات أخرى يواجه الفلسطينيون الآن حصيلة نتائج الفهم غير الدقيق الذي تبنته وتصرفت وفقه قيادتهم الرسمية تجاه الحقائق آنفة الذكر، الأمر الذي قادها إلى الانتقال بتدرج، من هدف «التحرير والعودة» الذي تبنته عام 1965، إلى هدف «إقامة سلطة وطنية مقاتلة على أي جزء يتم تحريره» الذي طرحته بعيد حرب عام 1973، إلى هدف البرنامج المرحلي: العودة والدولة وتقرير المصير الذي طرحته عام 1978، وصولاً إلى اختزال الحقوق الفلسطينية في «إقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلت عام 67»، بعيد اندلاع انتفاضة 87 الشعبية الكبرى.
هنا، يتضح أنه إذا كانت «خطة ترامب» لفرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته الوطنية حصيلة مسار «مدريد أوسلو»، فإن هذا المسار نفسه لم يكن نبتاً شيطانياً؛ بل حصيلة الخلل البنيوي الذي أصاب البنية القيادية الرسمية الفلسطينية، فكراً وممارسة، منذ عام 1973، أي بعد 8 سنوات، فقط، على انطلاق الطور المعاصر للثورة الفلسطينية. ودع عنك خطيئة الموافقة على التفاوض في ظل استمرار عمليات الاستيطان والتهويد، وفي ظل محطة أصبحت فيها حليفة «إسرائيل» الثابتة، الولايات المتحدة، شرطي العالم الذي يأمر فيطاع، أي في ظل أكثر محطات اختلال ميزان القوى، وأشدها مجافاة للنضال الوطني الفلسطيني، بالمعنى الشامل للكلمة.