ماجد الشيخ
إنشاء كيان الاحتلال الاستيطاني فوق أرض الوطن الفلسطيني عام 1948، سلطة كولونيالية، لم يلغ ضرورة استمرار وجود الحركة الصهيونية مؤسسة قائدة، أو قيادة تشرف على مهام أنيطت بها، وهي التي ترسم سياساتٍ تتوافق وأهدافها، وأهداف قيام مشروعها فوق تراب الوطن الفلسطيني، انطلاقا من أيديولوجيا تلك الحركة وأهدافها التوراتية، على حساب جغرافية وديموغرافية شعب آخر هو صاحب الأرض، وصاحب السيادة عليها. ومنذ ذلك الحين، لم تفرط الحركة الصهيونية بقيادتها لمشروع كيانها الاستيطاني الكولونيالي، وما برحت حتى اليوم تقوم برعاية وقيادة ما تصبو إليه الحركة وسلطتها في فلسطين، في تفريق واضح بين مهام كل منهما وعدم إلغاء طرفٍ على حساب الطرف الآخر.
هكذا مضت الأمور وتمضي في إطار جبهة الأعداء، من دون تفريط بالدور القيادي لمؤسسات الحركة الصهيونية وقيادتها. بينما في الإطار الوطني الفلسطيني، وعلى الضد من ذلك، تجري الأمور بطريقة معاكسة، حيث استولت السلطة، ورئيسها والمجموعة التي تحلقت حوله، على كامل الإطار القيادي للمشروع الوطني، من دون أن تأخذ بالاعتبار أنها لم تحقق لشعبها، عموم شعبها، ما يصبو إليه من أهداف صغرى أو كبرى، تكتيكية أو استراتيجية؛ فانقلبت السلطة (سلطة أوسلو) على مركز القرار القيادي (منظمة التحرير الفلسطينية) ومؤسساتها، المفترض أنها المرجعية القيادية للقرار الوطني الفلسطيني المستقل، في سلسلةٍ من خطوات نكوصية وتراجعات، راكمت عبرها السلطة ركام قراراتٍ خاطئة، عكست إخفاقات وطنية وسياسية، بات من الصعب، إن لم نقل من الاستحالة، التراجع عنها، والعودة إلى الوضع الطبيعي (التعدّدية) شبه الديمقراطي نسبيا، الذي ساد منذ السنوات الأولى لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وصولا إلى إنشاء سلطة أوسلو وتداعيات انهياراتها وطنيا وسياسيا وتنظيميا وجماهيريا، وما تراكم بفعلها من استبعاد تدريجي لكل معاني الوحدة الوطنية، والكفاحية التحرّرية، والانتقال إلى النرجسيات الفئوية والتعاملات الزبائنية التنسيقية مع الاحتلال، وشق وحدة الصفوف الوطنية، وترذيل البرامج الوطنية والقفز الدائم عنها لمصالح شخصية وفئوية؛ اتحدت جميعها فوقيا وباستعلاء مقصود، على الضد من مصالح الشعب الفلسطيني، ومؤسساته الوطنية، في إطارها الوحدوي الكياني الممثل بمنظمة التحرير، الأمر الذي جعل الانقسام السياسي والفصائلي والجغرافي منها (المنظمة)، درجة دنيا في سلم قيادة فرديةٍ لا تقود، ولا تحاول استنهاض وضعها من جديد، طالما أن السلطة ومؤسسات السلطة باتت تعتبر نفسها البديل عن المنظمة، والأعلى منزلة من منزلة المنظمة.
في هذا الحال.. كيف لا ينجح العدو، بينما نخفق نحن في ما يناط بنا من مسؤولياتٍ ليست تشريفية، بقدر ما هي تكليفية بامتياز. وعلى الرغم من ذلك، لا نقوم بها على أكمل وجه؟ لا سيما في مرحلةٍ من أشد مراحل التحرّر الوطني حلكة ومؤامرات تطبيعية واعترافية وتواطؤية وتنسيقية مع عدو استيطاني كولونيالي، مدعوم من أنظمة إقليمية، تريد أن تعمل على مد جسور التعاون معه، بإيعاز من مصالح ذاتية ومن مصالح مشتركة مع رأسماليات غرب معولم ومتوحش، افتقد، طوال الفترة الماضية، أحادية الهيمنة والنفوذ، في ظل تشابك المصالح وتعدّدية المراكز المعولمة، وهي تعود اليوم لتتصارع على نمطٍ من هيمنة أحادية تتعدّد مراكزها، ولا تجد ما يوافق هوى مصالحها المشتركة، في معارك التنافس التكنولوجي التجاري والاقتصادي والتقني والسياسي، كما على أسواق السلاح والاستثمارات، والتسبب بعديد من بواعث الفقر والمجاعات في العالم.
واليوم وفي الذكرى الخامسة والخمسين لإنشائها، شاخت منظمة التحرير قبل أوانها، مع شيخوخة قيادات فردية مستبدّة، نقلت أمراضها الذاتية إلى واقع المنظمة والشعب الفلسطيني، ليجري إضعافها وشرذمة قواها على اختلافها، وتفتيت وحدتها الفصائلية والوطنية، بفعل عناصر رئيسية وأساسية من داخلها، أصابها وهن متلازمة السلطة، ووهم إمكانية تحقيق بعض شعارات غير واقعية، احتلت مسرح الواقع. وعلى الرغم من فشلها، ما زالت بعض قواها تردّد صدى تلك الشعارات، فقد قفز التحالف الأميركي – الإسرائيلي – الإقليمي العربي خطواتٍ ارتدادية وتراجعية، ليزيد من تقدّم خطوات التصفية لكل الإرث الكفاحي الذي راكمته المنظمة، كيانا وطنيا جامعا جسّد أهداف شعب الوطن الفلسطيني وأمانيه وتطلعاته، بأمل التقدم نحو هدف إنجاح المشروع الوطني الفلسطيني التحرّري، إلا أن المفاوضات العبثية التي أوصلتنا إلى محطة أوسلو، لم تنجح إلا في تصليب عود سلطةٍ تنسق مع الاحتلال أمنيا واقتصاديا، وحتى وهي تنقسم على ذاتها، بقي طرفاها في الشمال وفي الجنوب، يعتقد كل واحدٍ منهما أنه الأجدر بنيل بعض ما يصبو إليه، في معزلٍ عن الطرف الآخر، وعلى الضد من واقع موضوعي كان يتجه، منذ البداية، لصفع الطرفين، وكانت النتيجة تلك النكبة المضافة، إلى مسلسل نكبات أحاقت بالشعب الفلسطيني منذ عام 1948. وها نحن نشهد تسارع خطوات التهيئة لنكبة جديدة، تحت عنوان "الصفقة"، على الرغم من إدراك بعضٍ مشاركٍ فيها، مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، أن القضايا الوطنية لا تحمل أيا من سمات الصفقات، فليس هناك من شعبٍ يخون وطنه على مذبح صفقة من هنا أو صفقات من هناك، وإنما هناك أفراد أو نخب من يجرّون جرا، على الرغم من أنهم مصلحيا مهيأون مسبقا للغوص في أسن المستنقعات وصفقاتها المشبوهة.
لهذا ما كان ينبغي نصب الحواجز بين المنظمة وقواها المؤسسة التي منحتها سمة التحرير وصبغة الكفاح التحرري، لينفض سامر بعض القوى عنها، خالعا ثوبها التحرّري، مفضلا ثوب السلطة، ومفصلا على مقاسه أهدافه الفئوية التي تستجيب لتطلعاته الزبائنية، طاردا مسألة الشراكة الوطنية، ومستبدلا إياها بالشراكة مع الاحتلال. وفي هذا المجال، تقع المسؤولية الأساس لاستعادة دور المنظمة والتحكّم بسياساتها وصياغة برامجها على عاتق قواها المكونة، وليس على عاتق أي طرفٍ آخر فقط، حيث إن مهمة تصليب عودها واستعادة دورها القيادي الرائد، يرتكز على عناصر قواها الذاتية في مواجهتها كامل الصعاب التي حالت وتحول دون مثل هذه الاستعادة، وفي مقدمتها المعادلة التي قلبت دور المنظمة الطليعي، من أداة كفاحية تحرّرية، وتنحيتها جانبا، بالانقلاب على دورها وطبيعتها التحررية، إلى استسهال ركوب موجة أوسلو السلطوية التي أغرقت الوضع الوطني الفلسطيني برمته في لجج الفرقة والانقسام والتباعد، حد الانفصال الجغرافي بين شمال الوطن وجنوبه. ومنذ تلك اللحظة، لم تزل المنظمة تعيش وضعية نفيها الذاتي والموضوعي، بعيدا عن مهام الضرورة الوطنية التي أنشئت من أجلها.
في المحصلة، تفيد النتائج شبه النهائية لتداعيات "أوسلو" بأن الوضع القيادي الفلسطيني يفرّط بمنجزات المؤسسة الكيانية التي جسدتها منظمة التحرير، وينتقل نوعيا باتجاه تكريس قيادة فردية، لا تقيم أي وزنٍ لإرث القيادة التعدّدية الجماعية التي مارست مهامها بشكل توافقي. وكما أصابت كذلك فقد أخطأت، لكن الوضع لم يشارف على الانهيار كما هو اليوم على أعتاب الصفقة التصفوية، وهي تعد مؤامرتها الدنيئة ضد الهوية الوطنية الفلسطينية، ولإكساب المشروع التهويدي الكولونيالي كل عناصر النجاح، بالشراكة مع وضع إقليمي بات أكثر استعجالا لإنهاء "القضية المركزية" كآخر قضايا الصراع في هذه البلاد، حيث الأولوية الراهنة حماية "أمن إسرائيل" والأنظمة الاستبدادية التي تحيط بها، ضمانة مباشرة للحفاظ على ثروات منطقة غنية بحاجات العالم الصناعي من النفط والغاز والمواد الخام الأولية.
منظمة التحرير الفلسطينية هي صاحبة الولاية على السلطة، وليس العكس، إلا إذا كان فصام السلطويين عندنا بلغ الذروة. وفي هذه الحالة لا يرتجى منهم أي إصلاح أو نقد أو أي مراجعة كفيلة بإعادة تصويب المسار، حتى في ظل اشتغال مؤامرة الصفقة التصفوية الأميركية – الإسرائيلية، وتوابعها الإقليمية، وتداعياتها في كامل المنطقة، مدعومة بعوامل انفكاك وضع عربي مهترئ، أوغل في مسار النكوص والابتعاد عن "القضية المركزية"، بما يعادل قرونا من الظلام، والغرق في بحار الأساطير والخرافات وشرائع الكهنوت التوراتي؛ وهو يوجِد "إسرائيل عصرية" و"فلسطين جديدة" لا علاقة لها بفلسطين التاريخية، يجري التمهيد لقبولها في مساحات الغبار السلطوي واستبداداته، في بلادٍ باتت تستفتى على "عدم الصراع" وكأنه ضمانة عيش وازدهار عظيمين، برعاية جنون عظمة ترامبي، يتواكب بجنون عظمة إقليميين عرب، من الصنف الذي لا يجيد سوى تبذير ثروات شعبه.