بقلم: الدكتور علاء أبو عامر
على وقعِ الحشود العسكرية والتهديدات المتبادلة بين الولايات المتحدة وإيران، تم الإعلان عن ورشة اقتصادية في المنامة، ضمن مخطط صفقة القرن، تحت عنوان "السلام من أجل الازدهار"، اختيرت البحرين على ما يبدو، لأنّها الطرف الأضعف في المعادلة الخليجية، حيث أغلبية سكانها من العرب الشيعة، ونظام حكمها، يعيش على وقع الاحتجاجات منذ فترة طويلة، حيث يقع تحت التهديد المباشر للنفوذ الإيراني. لذلك، وفي سبيل تأمين الحماية الأمريكية الدائمة، تَقدمُ المنامة على خطوات من التطبيع العلني المطلوب منها أمريكيًا، مع الأوساط الصهيونية من الكيان وخارجه، عبر زيارات متبادلة، وبالتالي، أن يقع الاختيار على المنامة؛ لاستضافة المؤتمر التطبيعي، ليس مصادفةً ولا هو بالمفاجئ.
أوّل من سجلَ اعتراضًا على المؤتمر/ الورشة، كانت السلطة الفلسطينية، كونها الطرف العربي الوحيد الذي أعلن صراحةً مقاطعته، ولم يسجل أي مواقف عربية أخرى حتى اللحظة. لكن من الواضح، أن الدول الخليجية والعربية التي حضرت مؤتمر وارسو التطبيعي، ستحضر مؤتمر البحرين (المُعلن حتى الآن: البحرين الإمارات، والسعودية)، وربما يحضرُ غيرها. الرهان على المواقف العربية فلسطينيًا، ليس في محله، فترامب لم يتصرف هكذا، لو لم يكن على يقين تام، أن لا أحد من العرب سيقف دفاعًا عن حقوق الفلسطينيين. اليوم تتجلى صرخة "يا وحدنا"، الّتي لطالما رفعها الفلسطيني في الأزمات والمنعطفات الخطيرة التي مرّ بها. لا أدري إن كان أحد من دول الجوار باستثناء مصر سيذهب للمشاركة؟ الأردن وضعه حرج، وكذلك لبنان.
هذه التّطورات المتلاحقة، ستنعكس سلبًا على الوضعِ الفلسطيني الداخلي وربما الخارجي، كما ستشتدُ الأزمة المالية الفلسطينية تفاقمًا، وهذا سيقود حركة التحرر الوطني الفلسطينية، إلى تغيير إستراتيجياتها، بأن تجعل كلفة الاحتلال باهظة، خصوصًا إذا نفّذَ اليمين الصهيوني الحاكم قرارهُ، بضمِّ الضفة، رغم تحذيرات قادة الأجهزة الأمنية السابقين فيه، ستبلعهم الديمغرافيا الفلسطينية المتزايدة بين النهر والبحر، وستتحلل السلطة من التنسيق الأمني، ومن رزمة بنود اتفاقيات أوسلو وباريس.
والمُستهدف الثاني بعد فلسطين سيكون الأردن، الذي يعاني أزمة اقتصادية خانقة، وسط اعتقاد لدى القيادة الأردنية، أنّ الحل سيكون على حسابها، ظاهرهُ حديث عن الفدرالية والكونفدرالية والتوطين.
المستهدف الثالث سيكون لبنان، من خلال حل أزماته الاقتصادية بقبول التوطين. الصفقة ستمرُّ حتّى لو اعتُرض عليها فلسطينيًا. ترامب وجماعته قالوا منذ البدء، إنّ موقف السلطة غير مهم.
العرب الرسميون يكذبون في قممهم، وما المؤتمرات المتكررة مع الصهاينة إلا تطبيع تدريجي؛ للوصول إلى التطبيع الكامل بإقامة العلاقات الدبلوماسية. وما إطلاق العنان لبعض النبّاحين في مواجهة الشعب الفلسطيني على وسائل الإعلام دون حساب، في دولٍ توزن فيها الكلمات بسوطِ الحاكمِ، لتهيئة الرأي العام بقبول الصهاينة، كأبناء عم وجيران.
أعتقد أنّ محور صفقة القرن، قد تمّ في الرياض عام 2017، فقد دفع العرب يومها الثمن مالًا، بالإضافة إلى أنّ حكومات دول الخليج، رهنتْ مستقبلها من خلال القبول بمبدأ تمويل الحماية الأمريكية، للسنوات العشر القادمة. القضية الفلسطينية قد تكون جزءًا من الصفقة، فإدراج حركة حماس وحزب الله ضمن الحركات الإرهابية، يعني تجريم كل من يحمل السلاح في وجه إسرائيل.
"غزة قادمة إلى الأسوأ"، هذا ما قاله السفير القطري العمادي في إحدى تصريحاته. ما الّذي يُخطّط لغزة؟ ذلك لم يعد سرًا، هناك خطوات تُتّخذ لخنقها، وإجبار حكّامها للانصياع لشروط الصفقة الكبرى العربية الأمريكية-الصهيونية، ليست حماس وحدها في المأزق، بل اليمين الصهيوني الحاكم أيضًا. بتنا نعلمُ فحوى الصفقة عربيًا، من خلال إفرازات قمة الرياض العربية الإسلامية مع ترامب، وما تلاها من لقاءات، أما جزؤها الفلسطيني، فنعرفُ تطبيقاته في القدس واللاجئين والاستيطان. ستُطرح أفكار فنتازيّة على حساب الفلسطيني وحقوقه. في أحسن الأحوال، ستُطرح الخطة، تبادل أراض بنسبة 5-6٪، سيحتفظ الاحتلال بالمستوطنات الكبرى، والبديل سيكون في غلاف غزة، أو جنوب الخليل، وعلى ما يبدو، هناك موافقة فلسطينية على ذلك.
تبقى قضيتا القدس واللاجئين، الأكثر تعقيدًا؛ الأولى قد تُحل بالإدارة المشتركة دون سيادة لأحد، والأخيرة قد تُعالج بالتوطين -أو إعادة التوطين- في الأردن والشتات الأوروبي والكندي والأسترالي. أما الأموال، فستتكفل بها دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات.
مشاريع التوطين والتغريب في مناطق اللجوء، وكندا وأستراليا وشمالي أوروبا، قائمة منذ زمن، ولو بأعداد قليلة، لكنها زادت مع أحداث الربيع العربي، وتدمير المخيمات هو جزء من الخطة، الّتي نفّذتها داعش وبعض القوى الرسمية العربية، على ما يبدو نحنُ في نهاية الصفقة، لا بدايتها كما يُعتقد، إذًا لم يبقَ إلّا إيجاد طرف فلسطيني للتوقيع، ومنح الصفقة شرعية، وإغلاق الملف الفلسطيني، رغم النفي الأمريكي، بالحاجة إلى بائع فلسطيني، يوقّع على إتمام الصفقة، لأنّه ليست ثمّة صفقة، بل تكريس واقع احتلالي مستمر.
الوضع الفلسطيني يمرُّ بأزمات مُركّبة؛ انقسام، أزمات مالية، انغلاق للأفق السياسي، خيارات سياسية واقتصادية صعبة، مستقبل مجهول، تخاذل عربي يصلُ حدّ الشراكة مع المحتل.. وغيرها. الضفة مقبلة على اضطرابات وقلاقل، إذا حدث الضمُّ بتطبيق القانون الإسرائيلي عليها، وغزة قادمة على حرب، حرب من نوع مختلف ستكون الأكثر قسوة، ما لم تتخذ حماس الخطوات المطلوبة منها وتُسلم الحكم، وبالتالي تسليم سلاحها معه، وهذا سيكون ممكنا لو وجِدَ جيش فلسطيني لدولة، كما قال أحد قادتها.
صفقة القرن -كما يُقال- أوّلها غزة. الحديث عن مال وفير سيصلها، وسيفرح الناس قليلًا، ومن ثمّ يبكون كثيرًا؛ سيفرحون حين يسدّون جوعهم، ويبكون لأنهم سيُضيعون وطنًا ومشروع دولة مع الضفّة. ما يحدُث مقدمة لأم الصفقات. هي قادمة، هناك من هو جاهز للقبول بما لم يقبل به أي فلسطيني في السابق، يُخطئُ البعض عندما يُكرّر مقولة "لا يوجد فلسطيني يقبل أقلّ من الثوابت"؛ (الثوابت الخاصة بالمنظمة)، هناك من يستعجل إنهاء الصراع، ومقولة الثوابت قد استُهلكت بالنسبة له.
يقولون إنّ المستقبل واعد لغزة الدويلة.. تكثرُ الأحاديث حول خطط التنمية المستقبلية فيها، يُلمّح الأمريكان لحماس بقبولها مفاوضًا؛ إن هي قبلتْ بشروطهم، وتصدُر من أطراف في حماس، إشاراتٍ بذلك، قد يكون هناك حوار ما، من خلال أطراف عربية (قطر ومصر) وأممية (نيكولاي مالدينوف).
"غزة هي الدولة"، مقولة تتردد في الأوساط الفلسطينية الشعبية والفصائلية. هذه الدولة عرضتها إسرائيل منذ سبعينيات القرن الماضي، على فتح والجبهة الشعبية، ورفضتا حتّى مناقشتها، ولم يقبل بها أحد، قد تُقبل اليوم، دون إعلان، عبر مسميات هدنة طويلة الأمد. لا وطني فلسطيني قبل بها قبل اليوم. والْيَوْم يوجد من سيقبل ربما، ستُخبرنا الأيام بما نجهل، إذ ما حصل لن يكون خافيًا على أحد، فمنذ مدة، هناك توجّس من تكريس الانقسام وتحويله إلى انفصال دائم.
مع انكسار الربيع العربي، انكسرت أحلام العرب بالتحرر من الاستبداد، ومع تكريس الاستبداد باستبداد مُتجدّد، يجدُ العربي نفسه أمام مشاكله الحياتية، انخفضت الحماسة لقضايا الأمة، انكمشت نَفسُ العربي في القُطري؛ أي الداخلي من شؤون بلده.
تتميزُ الجزائر وتونس والكويت بمواقف ما زالت تحافظ على محاربة التطبيع بكافة أشكاله، باقي العرب انخرطوا في تلك العملية، وفصلوا القضية الفلسطينية عن قضايا التعاون مع الصهاينة، وشغلوا بعض من مواطنيهم بالدفاع عن إسرائيل ومهاجمة الفلسطينيين، فبعد أن وُرّط الفلسطيني في قضية التسوية، قطعوا الحبل فيه، وتركوه وحيدًا، يُصارع أعتى قوى الأرض ظلمًا وغطرسة وعنصرية.