منير شفيق
البعض من الذين يرفضون "صفقة القرن" ويسعون صادقين، ومحقين، إلى إسقاطها، يقدمونها، بطريقة تبرزها غالبة على كل شيء، نافذة المفعول في كل ما تعمل، ولا أمل في ردها أو ردعها إلاّ من قِبل أهل المقاومة. وهم منتصرون عليها بالتأكيد. ولعل من بين هؤلاء بعضٌ يحصر إسقاطها بوحدة فصائل المقاومة الفلسطينية ومن يناصرها.
هذه الطريقة بالتعبئة ضد "صفقة القرن" قد تكون مفيدة عند من يريدون أن يُصفوا حساباتهم ليس ضد أمريكا و"صفقة القرن" فحسب، وإنما أيضاً ضد آخرين ما دام الكل، في نظرهم، مع "صفقة القرن" عدا تلك الصفوة من أهل المقاومة.
عالم متعدد القطبية
هذا البعض يعتبر أن كل ما يجري في المنطقة هو جزء من تنفيذ "صفقة القرن"، عدا ما يتعلق بما تقوم به المقاومة ومن يقترب منها، موضوعياً، بهذا القدر أو ذاك. فما يجري، ولو كان استمراراً لما جرى منذ بضع سنين (قبل مشروع "صفقة القرن") في العراق وسوريا واليمن وليبيا، والخليج والجزائر والسودان والمغرب، ومصر، حتى غزة من وجهة نظر سلطة رام الله: كله تنفيذ لـ"صفقة القرن". الأمر الذي يعني أن أمريكا والصهيونية العالمية و"الإسرائيلية" هما الممسكان بكل خيوط اللعبة، عملياً، إن لم يكن بالتخطيط المباشر. ولكن مع كل هذه القوة المتفوقة والتي يدها تدير كل الأحداث، فإن المقاومة ـ محور المقاومة ـ كفيلة بإنزال الهزيمة بـ"صفقة القرن". وهو استنتاج مؤكد، وليس من قبيل التشجيع المعنوي.
ودعك من أن هذا النهج يختلف عن مراد الآية الكريمة التي لا يريك الله عدوك وأنت تتهيأ للمعركة كثيراً، وإنما قليل. وذلك حين يريك تحليل عدوك كثيراً (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) سورة الأنفال، الآية: 43، بل غالباً وأنت تتهيأ للمعركة. لأن لكلٍ من التحليل هنا (الرؤية العامة) نتائجه المختلفة عند خوض المعركة. إن هذه الملحوظة للعبرة والتذكير إن نفعت الذكرى. وليس للحجة التي يراد أن يلفت إليها في الحوار مع ذلك البعض في قضية "صفقة القرن".
الحجة الأساسية التي يراد لفت الانتباه إليها تقوم على أن ما يجري من تحركات وأحداث، في البلاد العربية خصوصاً، وفي العالم عموماً هو محصلة مركبة لصراع قوى كثيرة، وليس من صنع تحكم قوة واحدة هي أمريكا. بل أن أمريكا في هذا، كجزء من موازين القوى، أضعف بكثير مما كانت عليه في القرن العشرين. وأن العالم اليوم متعدد القطبية العالمية والإقليمية. وأصبحت القوى المحلية ذات أدوار أكبر مما كانت عليه من قبل.
ولهذا من الخطأ القول أن كل ما يحدث أو أغلب ما يحدث، ولا حتى اللاعب الرئيسي في ما يحدث، هو "صفقة القرن"، أو هو من صناعة من وراء "صفقة القرن". ففي سوريا وفي العراق مثلاً وفي اليمن إذا شئت، فإن أمريكا في مواقع التراجع، في التخريب أو التجميد، أو الرد الفاشل على الهجوم، وليست في موقع الهجوم العام والكاسح، والمقرر للوضع أو للمستقبل. وذلك إذا كانت سياساتها هي التي تمثل "صفقة القرن" بل وحتى في قطاع غزة، وناهيك عن لبنان وسوريا، فالكيان الصهيوني يتلقى الضربات، ويحاول، ضعيفاً متردداً، الرد عليها. بل وحتى في الضفة الغربية والقدس، حيث الموقع الأول لخطر "صفقة القرن"، فأمريكا تواجه قطيعة ديبلوماسية مع سلطة رام الله، ووضعاً متفجراً ضد الاحتلال في الضفة الغربية. فمن ذا الذي لا يلحظ أن ثمة إجماعاً فلسطينياً لم يسبق له مثيل، في معارضة ما يسمى بـ"صفقة القرن" ومقاطعة مؤتمر المنامة المتآمر المشبوه، والحكم عليه بالفشل مهما تظاهر وأعلن.
ولكي تكتمل الصورة التي يجب أن يلحظها أولئك البعض، وكثير منهم أصدقاء، أن كثيراً من الدول والقوى العربية والإسلامية والدولية معارضة أو متحفظة، أو صامتة، أو متهربة، أو خائفة من تأييد خطوات اتخذتها أمريكا منفردة، ومتغطرسة، اعتبرت تنفيذاً لـ"صفقة القرن" مثل اعتبار القدس عاصمة لدولة "إسرائيل" أو نقل السفارة إليها، أو الموقف من وكالة الغوث، أو دعوة الفلسطينيين لبيع حقوقهم وفلسطين بالمال. بل حتى من يمكن أن يكونوا مع "صفقة القرن" لم تجرؤ دولة واحدة من دولهم أن تخرج على الإجماع العربي والإسلامي، في القمم العربية والإسلامية، أو الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، ولم تجرؤ دولة على التحفظ أو القول أنها تؤيد قرارات ترامب بخصوص القدس أو الجولان أو وكالة الغوث. فإذا كانوا لا يجرؤون على إعلان ما يخبئون (ولنقل حتى الآن)، فلماذا نتبرع مجاناً ونقول أنهم جميعاً مع "صفقة القرن"؟ ثم كيف يمكن اعتبار "صفقة القرن" ماضية كالقطار السريع إلى هدفه. وذلك بدلاً من أن تُرى متعثرة متخبطة معزولة، ومهيأة لضربات محور المقاومة ولا سيما في فلسطين؟
انتصار محور المقاومة
إذا كان محور المقاومة سينتصر على "صفقة القرن" فليس ذلك في معادلة تقول أن كل الرياح ضده وسينتصر عليها جميعاً، وإنما في معادلة تقول أن كل الرياح أو أغلبها ضد "صفقة القرن"، أو في غير مصلحة "صفقة القرن"، وستأتي الضربة القاضية لها من فلسطين قبل غيرها.
صحيح أن نوايا أمريكا المعبّر عنها من خلال ترامب وجيراد كوشنر وجيسون غرينبلات، وجون بولتون والسفير ديفيد فريدمان، والمسماة "صفقة القرن" ذات أبعاد تصفوية وخطرة، ويجب أن يشن النكير عليها بكل لسان ولا تؤخذ بخفة أو باستهتار. ولكن من غير السليم أن يبالغ بقوتها وسطوتها وقدرتها، ومن ثم عدم رؤية نقاط ضعفها المدمرة لها، وعدم ملاحظة عُزلتها وتعثرها وتخبطها. وذلك لمواجهتها بروح الهجوم، والتأكد من النصر إن شاء الله. وذلك استناداً لقراءة دقيقة لموازين القوى.
بل يجب أن نزيد هنا أن الذي سمح ويسمح عملياً، للمقاومة في قطاع غزة أن تقف نداً في المواجهة العسكرية مع العدو الصهيوني، وتشن عليه الهجمات الناجحة أسبوعياً من خلال مسيرات العودة الكبرى، أو عبر طائرات وبالونات اللهب كلما استدعت الضرورة، كما نزيد بأن الذي سمح ويسمح لقطاع غزة بأن يكون في وضع الهجوم يسمح للضفة الغربية والقدس بأن تنتقلا إلى مواقع الهجوم، فأبطال مصلى باب الرحمة، والاعتكاف بالمسجد الأقصى في رمضان، وأبطال انتفاضة إسقاط البوابات الإلكترونية، كما أبطال التحدي في الخان الأحمر، وأسرى الأمعاء الخاوية الذين أنجزوا انتصارات جزئية، وأبطال العمليات فائقة الجرأة من باسل الأعرج إلى عمر أبو ليلى، ومواقف أمهاتهم وآبائهم وقراهم ومدنهم يؤكد أن الضفة والقدس في حالة متفجرة. ومهيأة للانتفاضة الشعبية الشاملة وساعتئذ سترون "صفقة القرن" كالحصيد وأسوأ مصيراً.