يونس السيد
على مدى 71 عاماً الماضية، اعتاد الفلسطينيون، في كل عام، أن يحيوا ذكرى نكبتهم بالعديد من الفعاليات النضالية المختلفة؛ منها التظاهرات والاعتصامات والمهرجانات السياسية، وفي بعض المراحل بالعمليات العسكرية؛ ولكنهم في هذا العام يحيونها على نحو أكثر تعقيداً؛ بعد أن ولّدت النكبة سلسلة من النكبات، ودفعت الفلسطينيين إلى الاستعداد لمواجهة «أم النكبات» القادمة من واشنطن؛ عبر خطة التسوية الأمريكية.
لن نكرر الحديث عن شواهد النكبة، وسياقها التاريخي، ومحو مئات القرى والبلدات الفلسطينية عن وجه الأرض، والمجازر الجماعية التي ارتكبتها عصابات «الهاغاناة وشتيرن وايتسل» بحق الفلسطينيين، وتهجير مئات الآلاف منهم آنذاك؛ ليتحولوا اليوم إلى ملايين اللاجئين المُشتتين في بقاع الأرض؛ لأن ما ينتظر القضية الفلسطينية على يد إدارة ترامب قد يجعل كل ما شهدته في المراحل السابقة مجرد مقدمات للنكبة الكبرى أو «أم النكبات»؛ الهادفة إلى تصفية القضية تصفية نهائية وبالضربة القاضية.
فعلى مدار ثلاث سنوات تقريباً، تتواصل تسريبات خطة التسوية الأمريكية في اتجاهات مختلفة، وعلى نحو متعمد من دون تبني ذلك رسمياً؛ لجس نبض الفلسطينيين والعرب بشأن بعض بنودها الخلافية أو التي تبدو غير محتملة؛ لكن ومع اقتراب طرح هذه الخطة بعد شهر رمضان، كما هو معلن، فإن التسريبات بدأت تزداد ضراوة، وبدأت تؤشر إلى أن الكثير منها هو جزء حقيقي من الخطة الأمريكية، والتي في مجملها، على أية حال، تتجاهل كل حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه، وتحوله ليس إلى لاجئين، وإنما إلى جاليات في الدول التي يقيمون فيها، وتحسم كل القضايا الأساسية، القدس والأماكن المقدسة والحدود والمياه وغيرها لمصلحة «إسرائيل»، ويتبخر فيها «حل الدولتين»، وتتم تصفية قضية اللاجئين، وإنهاء عمل المؤسسات الدولية المرتبطة بهم، وفي المقدمة منها «الأونروا» التي أُنشئت خصيصاً؛ للإشراف على هذه القضية وإدارتها، ولتظل الشاهد الحي الوحيد على مأساة الفلسطينيين.
باختصار وبحسب هذه التسريبات، ليس هناك أي شيء للفلسطينيين، مقابل كل شيء
ل«إسرائيل»، وبالتالي لا خيار أمام الفلسطينيين سوى رفض هذه الخطة حتى قبل طرحها رسمياً، فالمكتوب يقرأ من عنوانه، كما يقولون، بغض النظر عما سيترتب على ذلك من ضغوط وقمع، وربما اغتيالات، وتشديد الخناق على حرية تنقل وحركة الفلسطينيين في الداخل والخارج؛ لكن ذلك قد يكون سلاحاً ذا حدين؛ إذ من المؤكد أن الفلسطينيين أصحاب الخبرة والباع الطويل في مقارعة الاستعمار والاحتلال على مدار أكثر من قرن لن يستسلموا بهذه البساطة؛ بل إن استفزازهم على هذا النحو؛ سيسهم في تفجير براكين الغضب الفلسطيني، ويعيد إطلاق مرحلة جديدة من المقاومة ستكون أكثر شراسة، ولا أحد يمكنه التكهن بنتائجها أو انعكاساتها في المنطقة.
الشيء المؤكد هو أن الفلسطينيين، الذين تعايشوا مع 71 عاماً من النكبة، هي أيضاً عمر دولة الاحتلال الغاصبة، باتوا يدركون مكامن القوة والضعف لدى «إسرائيل»، وكيفية التعامل معها، ولديهم من النضج والخبرة ما يؤهلهم لتخطي «أم النكبات» الناجمة عن مشروع إدارة ترامب التدميري، والتفرغ لمقارعة دويلة الاحتلال، التي باتت تحث الخطى نحو الشيخوخة لأسباب كثيرة، لا مجال للتوقف عندها الآن، قد تؤدي إلى إعلان وفاتها مبكراً.