محمد عبد الحكم دياب
طبول الحرب تقرع فتصم الآذان؛ لكنها ليست لإسماع إيران ولا لترويع المقاومة فحسب، إنما لإسماع الأبعد ممن غيروا معادلات القوة الإقليمية والعالمية؛ أشياء لم تكن متوقعة بهذه السرعة بعد الانهيار السوفييتي، وعوضه حضور روسي مؤثر، وتأثير صيني رصين، أخرج التنين الأصفر من «بَيَاتِه» الطويل، وظهور هاتين القوتين العظميين المباغت، مَثَّل عقبة كأداء أمام إتمام هيكلة العالم على الهوى الصهيو أمريكي. وتقف روسيا والصين في طليعة القوى النووية والصناعية الكبرى؛ فيها التقليدي الراسخ، والجديد المتميز، وقد اقترن ذلك بعودة روسيا لإقليم الشرق الأوسط، ومدها الجسور مع إيران والعراق وسوريا وفلسطين ولبنان بشكل أساسي، مع مراوحة سعودية مصرية تركية لم تستقر بعد.
وما يعنيني هنا هو فلسطين، وإمكانية تحولها إلى رقم صحيح في معادلات القوة الإقليمية والدولية؛ وقدرتها على تغيير البوصلة العربية والإسلامية والعالمثالثية، بجانب بوصلة الهوامش الغربية المناصرة لقضايا الحق والعدل والسلام، وفلسطين مؤهلة لدور أكبر من مساحتها الجغرافية والسياسية الثابتة والشرعية، وحتى بما تبقى منها بعد الاغتصاب ومصادرة الأراضي وطرد السكان؛ لديها إمكانية التحول لبؤرة فاعلة وأمامها فرصة، فكونها مستهدفة في حرب كبرى ضروس؛ سوف يكون لها تأثير بالغ على «القارة العربية»، وعلى العالم الإسلامي، وبين الشعوب المحبة للعدل والسلام والمعادية للصهيونية، واقتربت عودة فلسطين «قضية العرب المركزية»، وكان اغتصابها يستهدف العرب جميعا؛ لنَشْر الفُرْقَة والتقسيم والحروب المستمرة بينهم.
وعودة فلسطين ملحة في عصر تغيرت فيه السياسات العربية من السير نحو التحرر والتنمية والوحدة؛ إلى الانتكاس مع صعود القوى الطائفية والمذهبية، وما تحمله من جمود وتعطش للدماء، وعليه تحولت دول عربية لـ«كيانات وظيفية»، حسب تعريف المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري، ووصفه الدولة الصهيونية بـ«الكيان الوظيفي»، وحكى المسيري في سيرته الذاتية «رحلتي الفكرية» أنه انتبه لذلك في أواسط ستينيات القرن الماضي في أثناء دراسته في الولايات المتحدة، فقال: «وهنا بدأت أكتشف أن تأييد الغرب (لإسرائيل) مرده أنها جيب استيطاني يخدم مصالحه، شأنه شأن جيوب استيطانية أخرى، وكان تعبيرا عن نمط أكبر راسخ في وجدان الغرب».
ولا شك أن الهيمنة الصهيونية على الولايات المتحدة، وتبعية نظم عربية لها؛ حولت كثيرا منها لـ«كيانات وظيفية» صغرى؛ تدور في فلك «الكيان الوظيفي» الأكبر، مهمتها تمويل صفقات تثبيت الاستيطان وحمايته، ومع تضافر جهودها جميعا؛ بدت عربية اللسان صهيونية الوجدان، وكان أن تكاتفت على حصار غزة، وأغلقت منافذها البرية والبحرية، وأحكمت الخناق على المقاومة المتصاعدة فيها.
والتنين الصيني قوة بشرية كبرى؛ يقترب عددها من 1500 مليون نسمة، لها إنجازاتها العملاقة في كل المجالات، وهي على بعد خطوة من المركز الأول على مستوى العالم، والدب الروسي؛ الأكبر عالميا من حيث المساحة يؤكد حضوره وتأثيره الكبير على مسرح السياسة العالمية، وملء الفراغ السوفييتي، في مدى زمني لم يَطُل كثيرا، فتغيرت معادلات دولية؛ لم تكن قد استقرت بعد سقوط حائط برلين (آب/أغسطس 1989)، وعقب انهيار الاتحاد السوفييتي 1991 ، وعُدّ وقتها انتصارا كاسحا للولايات المتحدة، ومكسبا ضخما للحركة الصهيونية، وهذا حدث في وقت استقالة العرب من دورهم المطلوب، وأذعنوا للتبعية، واستمرأوا «التطبيع»، والتفريط والعجز عن حماية النفس والحفاظ على الأرض.
ويعتقد المعسكر الصهيوني تحت قيادة نتنياهو وترامب أن فرصته سنحت بعد تصنيع «عدو بديل»، جعل الجار الإيراني مصدر خطورة أكبر من كيان؛ زُرِع وفُرض وجوده بالحديد والنار والاستيطان المسلح، وارتفعت رايات «الجهاد المقدس» ضد إيران، وعلينا أن نَعلم أن الحرب الكبرى المنتظرة متعددة الأهداف؛ حسب دراسة أمريكية؛ صدرت عن «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»؛ حررها نداف بن حور؛ الضابط الصهيوني، والزميل الزائر في المعهد، ومايكل آيزنشتات مدير برنامج الدراسات العسكرية والأمنية بنفس المعهد؛ «عن حرب الشرق الأوسط الكبرى عام 2019» نُشرت في 2018، وأشارت إلى احتمال بلورة أهداف الحرب من طبيعة بدايتها وسياقها الجيوسياسي، وطرْح أسئلة من نوع: هل سَتَهدِف تل أبيب إلى تحطيم قوات العدو وإضعاف معنوياتها؟ (والعدو المقصود هم الفلسطينيون ومَن معهم)؟ أم إلى تعطيل تماسك محور المقاومة؟ أم نزع مصداقية «عقيدة المقاومة» التي يعتمدها العدو؟ أم زعزعة استقرار سوريا أو إيران؟ أم تجديد عملية الردع وتحقيق فترة طويلة من الهدوء؟ وكم من هذه الأهداف ممكن تحقيقه؟
وهل يتم التركيز على «حزب الله» ونصر الله؟ أم على البنية التحتية اللبنانية التي تسهّل أنشطة «حزب الله»؟ أم على إيران وقائد «الحرس الثوري» سليماني؟ أم على المليشيات الشيعية؟
وإلى أي مدى ينبغي استهداف القوات الميدانية للعدو، والبنية التحتية العسكرية، والقيادة، والروح المعنوية، وكيف ينبغي تحديد أولويات هذه الأعمال وكيفية تنفيذها؟
وكيف تتم مواءمة متطلبات الردع وحتمية سرعة إنهاء الحرب، الأمر الذي يُلحِق خسائر كبيرة بقوات العدو، وسقوط كثير من المدنيين، والعمل على تجنب تصعيد غير ضروري، التزاما بقانون النزاعات المسلحة؟
ورغم إقرار الدراسة بإمكانية الانتصار الصهيوني، لكنها تعترف «إذا كان بإمكان محور المقاومة أن يبث صورا لأعلامه وهي ترفرف فوق المواقع أو القرى العسكرية الصهيونية المُستولَى عليها، وأن يضرب البنية التحتية للدولة الصهيونية، ومواصلة إطلاق الصواريخ ضدها حتى اليوم الأخير للحرب؛ معلنا النصر، فقد يتعذّر على محور المقاومة الحفاظ على وهج الإنجازات المفترضة؛ نتيجة الخسائر الكبيرة والدمار الواسع في لبنان وسوريا وحتى في إيران».
والقوات الصهيونية المدججة بالسلاح تتجنب الحرب على جبهات متعددة؛ حيث تتطلب تقسيم قواتها. وما لا يُعرف، بشكل أساسي، هو ما إذا كان «حزب الله» أو إيران سيحاولان تضييق نطاق الصراع مع إسرائيل أو توسيعه، وهل سيتحاشى «حزب الله» القتال في لبنان للحفاظ على مخزون العتاد العسكري هناك، ويتجنب دمارا واسع النطاق للبنية التحتية للبلاد، ويتفادى إثارة رد فعل سياسي؟
هل ستحث إيران الحوثيين على مهاجمة السفن الصهيونية في البحر الأحمر، أم إنّ الحوثيين سيبادرون بذلك من تلقاء أنفسهم؟
هل سيقوم «حزب الله» وإيران بشن هجمات ضد المصالح الصهيونية من بداية الحرب؟ أم يحاولان عدم التصعيد المدمّر، وشن «حرب إرهابية خفية» أقل حدّة ضد المصالح الصهيونية في أنحاء العالم؟ وهل التهديد بنقل الحرب إلى لبنان أو إيران يمنع المزيد من التصعيد، ويعزز قوة الردع؟
أما الإسهامات العربية السرية في المجهود الحربي الصهيوني المشترك من دول عربية مختلفة؛ أشارت الدراسة إلى أن واشنطن «ينبغي لها تشجيع التنسيق والتعاون العسكري الهادئ بين تل أبيب وهذه الدول العربية، الأمر الذي قد يُعقّد التخطيط للحرب وخوضها بالنسبة لإيران ووكلائها».
هذا هو مشروع «حرب الشرق الأوسط الكبرى عام 2019»، التي لا يصلح معها غير الهجمات الخاطفة، والكر والفر والاستنزاف، وهو ما لا يقوى عليه الجيش الصهيوني؛ والاستفادة من دروس حرب الاستنزاف المصرية بعد 1967، فالمقاومة تنهكه، ويتجلى فيها إبداع المستضعفين، وهي حل وطريق مضمون نحو النصر في الظروف الراهنة