بقلم: الدكتور محمد السعيد إدريس
على مدى عقود طويلة مضت، حرصت الحركة الصهيونية، منذ انطلاقتها بمؤتمر بازل في سويسرا عام 1897، على تمرير عشرات وربما مئات المقولات الكاذبة والمختلقة، التي من شأنها التغطية على جريمة العصر التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني، الذي وجد نفسه ضحية مؤامرة دولية مدبرة، شاركت فيها حكومات ومنظمات تحركها أدوات تلك الحركة، هدفها «شرعنة» اختطاف وطن من شعبه، وتمرير مقولة «شعب بلا وطن» ويقصدون الشعب اليهودي لـ«وطن بلا شعب» ويقصدون الوطن الفلسطيني، في تدبير محكم قوامه إنكار وجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني، وإنكار تاريخ هذا الشعب في وطنه.
ثم جاءت المقولات التوراتية المزيفة التي تكذب وتكذب لتحوّل الكذب ليس إلى مجرد حقيقة عادية، بل إلى حقيقة إيمانية، من نوع «شعب الله المختار»، ومن نوع «أرض الميعاد» لتأكيد أحقية من يعتبرونه «شعباً يهودياً» بفلسطين كوطن موعود. هذا المخطط أدى إلى انخراط دول وأحزاب غربية بالأساس في الولايات المتحدة وأوروبا في وضع بذور التأسيس للدولة اليهودية، ابتداء من تمويل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وهي أول بنود مشروع مؤتمر بازل، وتمويل الاستيلاء على الأرض، وإنشاء حركات إرهابية لإرهاب الشعب الفلسطيني وإجباره على النزوح من وطنه، ثم إعلان وعد بلفور، ومن بعده الدور الخطير الذي قام به الانتداب البريطاني لفرض المشروع الصهيوني في فلسطين، وتوظيف ما يسمونه بـ«جريمة المحرقة اليهودية» المتهم بها الحكم النازي في ألمانيا لابتزاز الغرب كله، وليس ألمانيا وحدها، وإجبارهم على التكفير عن جريمتهم تلك، بتحمل مسؤولية تمويل ورعاية وتسليح الدولة اليهودية في فلسطين، ومنها اختلقت جريمة ما يعرف ب «العداء للسامية» التي ترفض وتجرِّم أي إنكار للمحرقة. استعادة الوعي بهذا المخطط يمكن استخلاصها من خلال متابعة ما تقوم به الآن المؤسسات «الإسرائيلية» والصهيونية الداعمة لها في العالم الغربي كله، وخاصة بالنسبة لهضبة الجولان السورية المحتلة، ابتداءً من العودة للاعتماد على مقولات تاريخية مختلقة ومزيفة، إلى رسم صورة ذهنية عن «إسرائيل» ودورها الوظيفي لخدمة العالم الغربي كله، وخاصة الولايات المتحدة.
والهدف هو فرض قناعات وحقائق مفتعلة في عمق العقل الاستراتيجي والرأي العام الغربي حول الجولان باعتبارها أرضاً «إسرائيلية» تم تحريرها من الاحتلال السوري. الإشارة إلى أن الجولان أرض «إسرائيلية» محتلة وردت على لسان بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الكيان في المؤتمر الصحفي المشترك الذي جمعه في البيت الأبيض بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب والذي وقّع فيه ترامب قرار اعترافه بالسيادة «الإسرائيلية» على الجولان. هذه الأسطورة المزيفة روج لها «يرون لندن» في صحيفة «يديعوت أحرونوت» بإرجاعه ما سماه «بداية القصة» إلى عام 1924 «حين قررت بريطانيا وفرنسا أن تقع الهضبة في الجانب السوري» ويقول إنه «لولا التدخل الفرنسي لانضمت الهضبة إلى أرض الانتداب البريطاني في أرض «إسرائيل»، ولكن التاريخ اتجه وجهة مختلفة عن تلك التي سار فيها»، ما يعني أن قرار احتلال الجولان وفرض السيادة عليها هو بالتحديد «تصحيح لمسار التاريخ المعوج». الأغرب من هذا كله، هو تعمد إنكار الفضل الأمريكي في تحويل الأسطورة إلى واقع، بهدف خلق قناعة بأن دور الأمريكيين ليس أكثر من إظهار الحقيقة ودعمها وليس اختلاقها باعتبار أنها «حقيقة مؤكدة كما هي حقوق اليهود في أرض إسرائيل مؤكدة».
النموذج الأبرز لذلك كتبه «يورام اتينجر» في صحيفة «إسرائيل اليوم» الموالية لنتنياهو بالقول ودون حياء، إن «اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة «الإسرائيلية» في هضبة الجولان، ليس هدية، ويوضح ما يريده بالقول إن البيان من واشنطن (بيان الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان) ينسجم مع المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. فقرار الرئيس ترامب يلقي الضوء على التماثل الأمني بين «إسرائيل» والولايات المتحدة، حيث تشكل «إسرائيل» موقفاً متقدماً للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والاعتراف بسيادة «إسرائيل» في هضبة الجولان يعظم صورة «إسرائيل» الردعية، ويطيل بذلك الذراع الاستراتيجية للولايات المتحدة دون أن تعزز قوتها في المنطقة، أي دون أن تكون بحاجة إلى تعزيز قوتها المباشرة في المنطقة طالما أن القوة «الإسرائيلية» موجودة وتقوم بالمهمة. لكن ما هو أكثر فجاجة وفجوراً جاء على لسان نتنياهو وما كتبه على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن أنهى زيارة للجولان يوم الثلاثاء قبل الماضي (2019/4/23) برفقة أسرته (زوجته وولديه). فقد علق نتنياهو على الصورة التي جمعته بأسرته على أرض الجولان المحتل بالقول: زرت مع عائلتي الكنيس اليهودي القديم في كفر ناحوم وموقع جاملا الأثري في الجولان. ما أجملك يا أرض «إسرائيل»!! يكذبون ويكذبون لتحويل الزيف إلى أسطورة، ثم يكذبون لتحويل الأسطورة إلى حقيقة، ويقاتلون من أجل إرغام العالم على تصديقها، متجاهلين تماماً الحقيقة الأزلية والأهم هو أن «الأرض تعرف أصحابها وأن الغرباء حتماً راحلون».