عبد السلام فتحي فايز
ما أشبه اليوم بالبارحة! سنةٌ كاملةٌ تمرّ على انطلاق مسيرات العودة في قطاع غزة المحاصر، والتي تحمل في عنوانها العريض إصراراً جماهيرياً على إعادة حق العودة إلى جدول الأعمال، كي لا تظنّ دولة الاحتلال بأنّ هذا الحق أصبح في طيّ النسيان، بل ما يزال حتى اللحظة أغلى ما يملكه الفلسطينيون، وإلّا لَمَا قدّموا الشهيد تلو الشهيد والجريح تلو الجريح دفاعاً عن حق العودة..
سنةٌ تمرّ، وأبرز ما يمكن تسليط الضوء عليه خلال هذه السنة، هو الإحراج الذي سبّبته دولة الاحتلال لحلفائها الذين فقدوا ماء وجوههم أثناء الدفاع عنها، إذ إنها بالغت في استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميّين المشاركين في مسيرات العودة، ولم يعد بالإمكان التستر على جرائمها التي اعترف بها العدو قبل الحليف، ولكنّ الإعلام الغربي الذي تعامل مع الحدث هناك؛ ما يزال مُختَبِئاً وراء إصبعه، يحاول بشتّى الوسائل تبرئة دولة الاحتلال، وإعادة تبييض صورتها التي اسودّت في مرأى العالم أجمع..
ولأن مهمّة إعادة التدوير جدّ صعبة، فقد حاول الإعلام الغربي استخدام عبارات مُبطّنة، وتلاعَبَ بالمضمون اللغوي في محاولةٍ منه لقلب الحقائق، وطمس معالم الإجرام التي تلاحق دولة الاحتلال، وذلك من خلال المحاولات التالية:
أولاً: تعمّد الإعلام الغربي أثناء تناوله مسيرات العودة؛ عدم نسب عمليات القتل إلى دولة الاحتلال، وحذف الفاعل من نص الخبر، وترك الباب مفتوحاً للتأويل والحدس، لكي يصرف أنظار القارئ عن الحقيقة العدوانية لدولة الاحتلال. فعلى سبيل المثال، أوردت صحيفة لوس أنجلس تايمز الأمريكية خبراً في الأسبوع الأول لانطلاق مسيرات العودة بالصياغة التالية: "15 قتيلاً في مواجهات غزة"، وكأنّ الفاعل ليس معروفاً، أو كأنّ دولة الاحتلال ليست هي المسؤولة عن إطلاق النار على المتظاهرين العُزّل، وبالتالي فإنّ القارئ لديهم لن يتخذ موقفاً من دولة الاحتلال عند قراءته لهذا الخبر المحرّف..
ثانياً: حاولَ الإعلام الغربي أثناء عرضهِ لمسيرات العودة، خلق رؤية لدى القارئ تفيد بوجود تكافؤ عسكري بين الطرفين المتصارعين هناك، من خلال استخدام ألفاظ مضلّلة تشي بذلك، مثل مصطلح "اشتباكات" الذي يفيد بوجود قوّتين متحاربتين ولديهما قدرتان عسكريتان متماثلتان إلى حدّ بعيد، وما هذا بصحيح طبعاً، فكيف يكون جيش دولة الاحتلال المدجّج بالأسلحة متكافئاً مع متظاهرين ليس لديهم سلاح سوى صدورهم العارية، وشهدائهم الأبرار الذي لا يملكون سوى عدساتهم كالشهيد الصحفي ياسر مرتجى، وأجهزتهم الطبية كالشهيدة المسعفة رزان النجار؛ التي كانت شاهدة على إجرام دولة الاحتلال التي لم تفرّق بين مسلّح وأعزل؟ فالجميع في مرمى نيران الاحتلال دون استثناء، طالما أنّ المطالب تنادي بحق العودة الذي يشكل كابوساً جاثماً فوق صدورهم..
ثالثاً: استخدم الإعلام الغربي حرف التقليل "قد" قبل الفعل المضارع، أثناء تناوله تقرير الأمم المتحدة الذي وجّه اتهاماً مباشراً لدولة الاحتلال بارتكابها جرائم حرب أثناء تعاملها مع مسيرات العودة، وذلك لتحويل الاتهام الموجّه لدولة الاحتلال إلى شكوك وظنون، وليست تهمةً ثابتة. فعلى سبيل المثال، أوردت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، بعد صدور هذا التقرير، خبراً يقول إنّ تقرير الأمم المتحدة يفيد بأنّ "إسرائيل" قد تكون ارتكبت جرائم حرب في غزة.. وباستخدام حرف "قد" في هذا الخبر، فإنّ احتمالات تبرئة دولة الاحتلال ما تزال قائمة، وربما تكون بريئة من كافة التهم المنسوبة إليها.
أمّا قناة "سي أن إن" الأمريكية، فقد اتبعت نهجاً من نوعٍ آخر، وذلك من خلال استخدامها كلمة "ربّما"، أثناء تعاملها مع تقرير الأمم المتحدة، وذلك من خلال إصدارها للخبر التالي: الأمم المتحدة تقول لإنّ "إسرائيل" ربّما تكون ارتكبت جرائم حرب في قطاع غزة..
إذن، هي محاولات يائسة من قبل الإعلام الغربي لتضليل المشاهد، من أجل إقناعه أنّ دولة الاحتلال ما هي إلا حمل وديع، وكل ما هو منسوب إليها من عمليات قتل وتهجير وتجويع عارٍ عن الصحة تماماً، ولكنه عبثاً يحاول، فالحقيقة واضحةٌ كالشمس، والإجرام الإسرائيلي واضحٌ للعيان ولا يمكن نكرانه أو تغطيته. وقد بدأت شعبية دولة الاحتلال تتناقص بشكل ملحوظ لهذا السبب، كيف لا وقد وصلت إدانة دولة الاحتلال إلى قلب الأمم المتحدة، وبدأ أنصارها بالتخلي عنها رويداً رويداً، بعدما استشعروا الإحراج الإنساني جراء وقوفهم ودعمهم دولة الاحتلال في مواجهة الفلسطينيين الذي يثبتون يوماً بعد يوم؛ أنه لا تراجع عن حق العودة، ولا تنازل عن فلسطين كاملة من البحر إلى النهر بعاصمتها الطهور مدينة القدس؟