بقلم د. وليد القططي
بعد الاحتلال البريطاني لفلسطين وظهور مخاطر المشروع الصهيوني في مطلع القرن العشرين، حاول الفلسطينيون إيجاد إطار سياسي يوّحدهم ويُمثلّهم، وتجسدّت تلك المحاولات في إنشاء أُطر مُختلفة كان أبرزها: المؤتمر العربي الفلسطيني بين عامي 1919 – 1928 برئاسة عارف الدجاني ثم موسى كاظم الحسيني، ثم اللجنة العربية العليا بين عامي 1936 – 1946 برئاسة الحاج أمين الحسيني، ثم الهيئة العربية العُليا بقرار من الجامعة العربية عام 1946 برئاسة الحاج أمين الحسيني حتى نهاية نكبة فلسطين عام 1948، وبعد النكبة شُكلت حكومة عموم فلسطين في غزة بقرار من الجامعة العربية والهيئة العربية العليا برئاسة أحمد عبدالباقي ولكنها ظلت حبراً على ورق. أما الإطار الأكثر بروزاً واستمرارية فكان منظمة التحرير الفلسطينية.
أُنشأت منظمة التحرير الفلسطينية بقرار من الجامعة العربية في مؤتمر القمة الثالث المنعقد في القاهرة عام 1964 بدعوة من الزعيم جمال عبدالناصر، وتم ولادة المنظمة بعد انعقاد المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول في القدس نفس العام، وشُكلّت كافة مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وانتُخب أحمد الشقيري رئيساً لها، وأُعلن في المؤتمر (الميثاق القومي الفلسطيني)، ثم عُدّل إلى (الميثاق الوطني الفلسطيني) عام 1968 مؤكداً على أن "فلسطين بحدودها التي كانت قائمة في عهد الانتداب البريطاني وحدة إقليمية لا تتجزأ"، وعلى أن "الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين" وأن الثورة الشعبية المسلحة هي طريق التحرير والعودة. وبعد هزيمة 1967 وضياع ما تبقّى من فلسطين- الضفة والقطاع- دخلت حركة فتح وفصائل المقاومة المنظمة بعد أن كانت تشكك في شرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني وتتهمها بالارتباط بالأنظمة العربية، ثم اُنتخب قائد حركة فتح الزعيم الراحل ياسر عرفات رئيساً للمنظمة خلفاً ليحي حمودة، فأصبحت حركة فتح قائدة للمنظمة، ومن خلالها للحركة الوطنية الفلسطينية.
منظمة التحرير الفلسطينية هي التعبير الأقوى عن الهوية الوطنية الفلسطينية والصياغة الأبرز للأهداف الوطنية الفلسطينية، المتمحورة حول التحرير والعودة والاستقلال، فأظهرت البُعد الوطني للقضية بعد أن كان البُعد الإنساني لقضية اللاجئين هو الظاهر منها، كما أن المنظمة شكلّت أهم ملامح النهوض القومي العربي في مرحلة المد القومي والناصري، وساهمت قيادة فتح للمنظمة في تكريس الاستقلال الوطني آنذاك، واكتسبت المنظمة شرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني من تمسكها بالحقوق الوطنية الفلسطينية وممارستها للكفاح المسلح، وكذلك من خلال قدرتها على تعبئة قوى الشعب الفلسطيني حولها وتوحيد فصائل المقاومة في مشروعها الوطني التحرري، فكانت الشرعية الثورية والشعبية تسبق اعتراف العرب والعالم بها، هذا الاعتراف الذي كان له ثمن سياسي دفع بالمنظمة إلى القبول بقرارات ما يُسمى بالشرعية الدولية، وجوهرها القبول بفكرة تقاسم فلسطين بين صاحب الأرض ومغتصبها.
فكرة القبول بتقاسم فلسطين تسللت في الفكر السياسي الفلسطيني؛ ثمناً للرغبة في الحصول على الاعتراف الدولي، وتحت مبررات الفلسفة السياسية الواقعية المشبعة بروح الانهزامية وشعار الواقعية الثورية، وأثمر هذا الفكر أول ثماره في طرح البرنامج المرحلي عام 1974 المعروف ببرنامج النقاط العشر، ثم تراجع بفعل عوامل التعرية الوطنية، وتآكل النظرية الثورية، وانفضاض العرب من حول فلسطين، حتى تدحرج البرنامج المرحلي إلى الدرك الأسفل مما يُسمى بالتسوية السلمية، التي تبلوّرت في اتفاقية أوسلو بعد عشرين عاماً من مسيرة التراجع عن الحقوق الوطنية الفلسطينية لتتحول السلطة من "سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة" إلى سلطة تحت الاحتلال ليست مستقلة وغير مقاتلة، لم تنقلنا إلى الدولة، ولم تُعيدنا إلى الثورة.
كانت التحوّلات في الفكر السياسي للمنظمة تنتقل من محطةٍ إلى أخرى تبعدنا أكثر من فلسطين، كان الجهاد الإسلامي كفكرة ومشروع يجمع بين الإسلام وفلسطين والجهاد في بوتقة واحدة أثمرت حركة الجهاد الإسلامي اتخذت الإسلام مُنطلقاً، وفلسطين هدفاً، والجهاد وسيلةً، وحلّت الإشكالية التي فصلت بين الإسلاميين والوطنيين، وأنهت الفصام النكد بين الانتماء للجماعة الوطنية والانتماء للأمة الإسلامية، وجمعت بين دوائر الولاء الوطني الفلسطيني والقومي العربي والديني الإسلامي، فحددت هويتها حركة تحرير وطنية بمرجعية إسلامية، أو حركة إسلامية قضيتها المركزية وطنية، وكانت منذ البداية ترى في الإسلام منهج حياة، ونظرية ثورية، وإيديولوجية مُحرّكة للجماهير وباعثة للأمة، ودافعة للنضال الوطني. وترى في إغفال المنظمة لهذه الحقيقة ولأبعاد الصراع الحقيقية مع المشروع الصهيوني خطأً كبيراً، وتُنظر للصراع مع المشروع والكيان الصهيوني إضافة إلى بُعده الوطني باعتباره صراعاً حضارياً بين الأمة الإسلامية والمشروع الاستعماري الغربي ورأس حربته المشروع الاستعماري الصهيوني،وكذلك باعتباره صراع وجود لا صراع حدود أو ضد نظام تمييز عنصري وإن كان ذلك أحد أشكاله.
وترى الحركة إضافة للجانب الفكري كما جاء في الوثيقة السياسية للحركة عام 2018 أن شرعية أي مؤسسة فلسطينية، وأهليتها لتمثيل الشعب الفلسطيني، إنما تُستمد من التزامها الأمين بكامل حقه في وطنه فلسطين، ومن جهادها لاسترداده، ورفضها لأي تسوية تنتقص منه، وتمثيلها للهوية الوطنية بجميع مقوماتها، وتجسيدها وحدة الشعب. وأن التخلّي عن هدف تحرير فلسطين، والاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني، وتوقيع اتفاقية أوسلو، ونبذ المقاومة وتجريمها، يُعد انقلاباً على المنظمة والثوابت التي نص عليها ميثاقها. وهناك جزء كبير من الشعب الفلسطيني مُمثلاً بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، ومعهما شرائح فلسطينية واسعة غير منخرط في إطار المنظمة، وهذا ينتقص من شرعيتها التمثيلية وتعبيرها عن الإرادة الشعبية الفلسطينية. وأن استعادة مكانة منظمة التحرير الفلسطينية، كممثل للشعب الفلسطيني، يتطلب إعادة بنائها، على نحو ديمقراطي توافقي، لتصبح إطاراً جامعاً للكل الفلسطيني، وذلك على أسس فكرية وسياسية جديدة تستند إلى الحقوق والثوابت الوطنية وبرنامج كفاح وطني شامل.
ورغم كل ذلك ترى حركة الجهاد الإسلامي في الخلاف مع المنظمة خلافاً فكرياً وسياسياً يتم حله بالحوار الفكري والسياسي بعيداً عن العنف، وترى أن هناك إمكانية لإصلاح المنظمة لتكون بيتاً للكل الفلسطيني وقائدة للمشروع الوطني الفلسطيني، ولا زالت ترفض إيجاد كيان سياسي بديل أو موازي لها، ولذلك كانت جزءاً من (إعلان القاهرة) عام 2005 الذي ينص على "تفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية وفق أُسس يتم التراضي عليها بحيث تضم جميع القوى والفصائل الفلسطينية بصفة المنظمة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" وهذا ما تم التأكيد عليه في كل اتفاقيات المصالحة اللاحقة خاصة اتفاقي 2009- 2011، والذي يُعيق اجتماع الإطار القيادي الموّحد للمنظمة المخّول بإصلاح المنظمة هو السيد محمود عباس.
ونختم بكلام الأمين العام السابق لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الدكتور المجاهد رمضان عبدالله شلح رداً على سؤال حول منظمة التحرير الفلسطينية "نحن لسنا ضد منظمة التحرير، نحن نريد منظمة التحرير، هي مكسب للشعب الفلسطيني... لكن أن تحكم عليَّ أن أقر بشرعية منظمة التحرير ممثلاً للشعب الفلسطيني وممثل وحيد وأنا مش فيها... كأنك تقول لي يجب أن تسحب اعترافك بنفسك، أنت غير موجود، أنت لا شرعية لك، وهذا غير منطقي... نحن بحثنا هذا المسألة في القاهرة، وتوافقنا على أن حماس والجهاد ليس لديهم مانع من الحديث عن منظمة التحير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني بشرط إعادة بنائها على أسس سياسية وتنظيمية جديدة... شرعية المنظمة تتوقف على قدرتها على تمثيل الشعب الفلسطيني وتوحيده. ".