بدأت السلطة الفلسطينية تنفيذ سلسلة جديدة من العقوبات على قطاع غزة، من خلال قطع رواتب الآلاف من الموظفين غير المنتمين لحركة "فتح"، فيما تشمل هذه العقوبات أيضاً الأسرى والجرحى وأسر الشهداء من حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي".
ولم يتسلّم الآلاف من الموظفين والجرحى وأسر الشهداء والأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي والأسرى المحررين مخصصاتهم المالية عن شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، والتي تم، أول من أمس الثلاثاء، البدء في دفعها للموظفين العموميين في غزة والضفة الغربية.
وأحدثت هذه العقوبات الجديدة صدمة وانهياراً في صفوف المستهدفين بالحرمان من الرواتب، خصوصاً أنه لم يجرِ تبليغهم بالأمر من قبل، فيما نُقل البعض منهم من أمام المصارف المحلية إلى المستشفيات نتيجة أزمات صحية أصابتهم عقب علمهم بقطع رواتبهم.
ويسود التقدير في غزة بأنّ رئيس السلطة محمود عباس، بدأ يتخلّى عن القطاع بشكل تدريجي من خلال هذه العقوبات، لكنه يُبقي على "شعرة معاوية" من خلال أعضاء حركته "فتح"، وعددهم ليس بالقليل في القطاع الذي تسيطر عليه حركة "حماس".
وتقلّص عدد موظفي السلطة في غزة في السنتين الأخيرتين إلى حوالي 30 ألفاً فقط، بدلاً من حوالي 70 ألفاً كانوا يتلقون رواتبهم طوال سنوات الانقسام بانتظام، قبل أن يتعرّضوا بدورهم للعقوبات للمرة الأولى في إبريل/ نيسان 2017، عندما تعرّضت رواتبهم للخفض بنسبة تزيد عن 50 في المائة.
لكن هذا الشهر، قامت السلطة بزيادة الرواتب لموظفيها المعتمدين في غزة، أو على الأقل لجزء كبير منهم، إلى ما يقارب 75 في المائة من قيمة الراتب الأساسي، في إطار ما بات يعرف بإعادة "هيكلة العقوبات".
وتشمل هذه الهيكلة الجديدة، الاهتمام بموظفي السلطة من عناصر "فتح" والموالين لها، وقطع الرواتب والمساعدات عن المتبقين بشكل تام.
ووفق معلومات كشفتها مصادر لـ"العربي الجديد"، فإنّ السلطة "بدأت هيكلة العقوبات على نحو يعيد الرواتب للمنتمين إلى فتح، ويقطعها عن الآخرين، لتحميل حركة حماس مسؤولية تأمين رواتب لهؤلاء، في سبيل الضغط عليها أكثر، وتوريطها في مزيد من الأزمات الداخلية"، موضحةً أنّ "عباس واللجنة المركزية لفتح اعتمدوا خطة جديدة للضغط على حماس، وذلك عبر قطع الرواتب عن غير الفتحاويين، وتحويل الأموال المقتطعة من الموظفين إلى أعمال أخرى في غزة، لزيادة قوة حركة فتح".
وتستهدف الخطة الجديدة تقويض حكم "حماس"، من خلال الضغط عليها أملاً في "انفجار" داخلي معيشي اقتصادي في وجه الحركة التي أظهرت في السابق عدم اكتراث كبير بهذه العقوبات، رغم تأثّرها المباشر وحكومتها في غزة بالأزمة التي نتجت عن هذا التقليص المالي.
وستحدث هذه الإجراءات مزيداً من الخلاف بين مكونات الشعب الفلسطيني في غزة، خصوصاً أنّ العقوبات لم تستثنِ موظفين ينتمون لفصائل في "منظمة التحرير"، والذين شملتهم العقوبات وتعرضوا لقطع مستحقاتهم المالية أيضاً.
وقطعت السلطة المخصصات المالية الشهرية التي تتلقاها الجبهتان "الشعبية" و"الديمقراطية لتحرير فلسطين" من الصندوق القومي للمنظمة، منذ أكثر من عام، ولم يجر صرفها إلى الآن رغم الوعود المتكررة.
ويُخشى جدياً من تداعيات هذه الإجراءات في المرحلة المقبلة، لا سيما أنها تشتد بالتزامن مع عودة الحديث أميركياً عمّا يسمى بـ"صفقة القرن"، والتي كانت بعض التسريبات قد أظهرت أن من بين أهدافها محاولة فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية.
كما تضع هذه الإجراءات حركة "حماس" أمام عدد من الخيارات، أبرزها الاعتماد بشكل أساسي على مصر لإيجاد حلّ لأزمات القطاع وتوفير الالتزامات الحياتية.
وبدا واضحاً أنّ القاهرة تتجهّز لمثل هذا الخيار من خلال توسيع المعبر التجاري مع القطاع بالقرب من معبر رفح البري. ومن بين الخيارات الأخرى احتمال لجوء "حماس" لتفعيل عمل اللجنة الإدارية، لإدارة الحكم في غزة، والتي كانت قد حلّتها في سبتمبر/ أيلول عام 2017، أو ربما الذهاب إلى تشكيل لجنة فصائلية للحكم، وحتى التحالف مع تيار القيادي المفصول من حركة "فتح"، محمد دحلان، لتسيير الأوضاع في القطاع.
لكن دون الخيارين الأخيرين عوائق كثيرة، إذ إنّ الفصائل ترفض المشاركة في هذه اللجنة لإدارة شؤون القطاع، كما ترفض المشاركة في الحكومة الفصائلية التي يجري بحث تشكيلها من قبل حركة "فتح" والسلطة الفلسطينية في رام الله، لخلافة حكومة الوفاق.
ويبدو مع كل الضغط الداخلي في غزة، والضغط الخارجي أيضاً، والتلويح بين الحين والآخر بخيار الحرب الإسرائيلية على غزة، أنّ الأوضاع لن تستقر قريباً، وأنّ المصالحة لن تتقدّم، والانقسام سيبقى قائماً في الساحة الفلسطينية إلى حين "توفّر إرادة الأطراف المختلفة".
وتعزّز هذه الأوضاع من الاعتقاد السائد بأنّ اللقاء المرتقب في موسكو للفصائل الفلسطينية لبحث المصالحة الوطنية، والمقرّر بعد نحو أسبوع، وكذلك اللقاء الذي ستدعو إليه مصر للغرض نفسه، وفق ما أعلن عضو المكتب السياسي لـ"حماس" حسام بدران، أمس الأربعاء، لن يُحدِثا أي تقدم في مسار إنهاء الانقسام المستمر منذ 12 عاماً، في ظلّ غياب المدخل الحقيقي لإنهاء أزمة أرّقت المجتمع الفلسطيني ودفعته لطريق مسدود.
ومن المقرر أنّ تدعو مصر للقاء وطني فلسطيني جديد في القاهرة، لبحث التحديات التي تواجه المشروع الوطني الفلسطيني وسبل إعادة الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام. ويفهم من هذه الدعوة أنها رد غير مباشر على الدعوة الروسية للفصائل.