Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

من الجولان إلى غزة يتجدد الفشل

بقلم: الدكتور محمد السعيد إدريس

لم أجد أفضل من مقال المؤرخ الإسرائيلي «أفيعاد كلاينبرج» الذي نشره أخيرا في صحيفة «يديعوت أحرونوت» لدحض المفهوم المغلوط عند بنيامين نيتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية لـ «الاحتلال». نيتانياهو يعتقد أنه يعيش نشوة عمره وهو يستعرض بغروره، نجاحاته في اختراق معظم أركان الحكم العربية، ويزعم أنه كسب معركته مع الحكومات ولم يبق أمامه غير كسب المعركة مع الشعوب، أي تحويل موجة التقارب الرسمية لأنظمة عربية بالكيان الصهيوني إلى موجة تطبيع شعبية معتقداً أن نجاحه في الأولى سيمكنه من النجاح في الثانية «دون دفع أي أثمان في القضية الفلسطينية» زعماً منه بأنه ليس لدى إسرائيل أرض تعيدها لـ «الأغيار» وأنها لا تحتل أرضاً من أحد.

فقد تعمد المؤرخ الإسرائيلي أن يسخر في مقاله من غرور نيتانياهو الذي أغراه بأن يرفض بالمطلق الاعتراف بأن إسرائيل تحتل أرضاً عربية. فالأرض عنده هي «أرض إسرائيل» وإسرائيل «لم تحتل أرضاً بل حررتها واستعادتها من العرب المغتصبين» والجديد في رؤية نيتانياهو أن مفهومه للاحتلال لا يأتي فقط، وكما يقول أفيعاد كلاينبرج من أن «الفترة التي لم نحكم فيها المناطق (يقصد لم يحكم فيها الإسرائيليون الضفة الغربية وغزة) كانت بالإجمال مهلة من ألفي سنة في سيادتنا، ولا حتى لأن الرب وعدنا، قبل ثلاثة آلاف سنة ببلاد إسرائيل الكاملة»، ولكن يرجع إلى امتلاك إسرائيل القوة وليس فقط الحق التاريخي، كما هو حال الإمبراطوريات التاريخية في العالم التي استطاعت بالقوة أن تكسر دولاً وتضم أراضي دون أن يحاسبها أحد، فهو يرى أولاً أن الأرض التي توسعت إسرائيل في ضمها هي أرض محررة وليست أرضاً محتلة من أحد «فالشعب لا يحتل أرضه والأرض هي لليهود بوعد من الرب»، ويرى ثانياً أن قوة إسرائيل هي ركيزتها في فرض هذا المفهوم، فكلما كانت إسرائيل قوية «ستكون قادرة على إخراس أي أصوات تطالبها بـ«انسحاب من أرض محتلة.

ولا يرى هذه المطالبات أكثر من «ترهات» وافتراءات مخادعة. المؤرخ الإسرائيلي سخر بشدة في مقاله المشار إليه من هذا المفهوم المشوه لـ «القوة» في صنع التاريخ، و»للاحتلال»، وطالب نتنياهو بأن يسترجع تاريخ ما حدث لتلك الإمبراطوريات التي صالت وجالت، احتلت وقتلت وشردت، وفي النهاية سقطت على حد قوله لأن «الفرضية التي تقول إن القوة اليوم هي القوة غداً، هي فرضية خاطئة ومدحوضة. انظروا إلى الدول العظمى والإمبراطوريات في الماضي، فقد كلفتها سكرة القوة (وللآخرين) اليوم ثمناً باهظاً غير مرة». نصيحة أفيعاد كلاينبرج أعتقد أن نيتانياهو لم يفهمها ولن يحاول فهمها لكنه إن لم يفهم بإرادته سيفهم غداً بغير إرادته، وهذا ليس ضربا من الخيال بل قراءة للواقع الآخذ في فرض نفسه، وأمام نيتانياهو وكل من خدعوا في أكاذيبه درسان لن يكون في مقدوره أن يفلت منهما.

الدرس الأول من الشعب العربي الأبي في هضبة الجولان السورية المحتلة. فقد أخذ غرور القوة نيتانياهو وحكومته بعيداً وجعله يتصور أن النجاح الإسرائيلي في احتلال الجولان بالقوة عام 1967 وإعلان ضمها عام 1982، يمكِّنهم من محو هوية الشعب العربي المحتل وتحويله إلى جزء من «الشعب الإسرائيلي»، أي كسب معركة محو الهوية بقوة الاحتلال كرهان أساسي من رهانات الدولة الصهيونية. من هنا جاء قرارهم باستبدال إدارتهم المباشرة لقرى الجولان المحتلة عن طريق ما يسمى «الشئون المحلية والبلدية» بإدارة ذاتية من جانب أهالي الجولان عبر إجراء ما سموه «انتخابات المجالس المحلية» في محاولة منهم لشرعنة الاحتلال وتجميل المحتل، وتطوير استدراج السوريين أبناء الجولان لحيازة الهوية الإسرائيلية. ولسوء حظهم جاءهم الرد صادماً من الشعب السوري »ابن الجولان« فما حدث لم يكن مجرد هزيمة نكراء فحسب بل اتخذ صفة «المأساة المضحكة.. المبكية». فمن أصل 1618 ناخباً سجلتهم سلطات الاحتلال على لوائح الاقتراع شارك 21 شخصاً، والمرشحة الوحيدة التي صمدت أمام الضغط الشعبي الرافض بقوة للخطة الإسرائيلية بعد أن انسحب كل المرشحين لم تحصل إلا على صوت واحد هو صوتها، لينهزم الاحتلال وينتصر الشعب السوري المتشبث بهويته الوطنية ويسقط أكذوبة نيتانياهو بأن «الاحتلال ترهات» ويؤكد أبناء الجولان أن الاحتلال احتلال ومآله هو الزوال. الدرس الثاني جاء لطمة قوية من غزة الصامدة التي نجحت في اختبارين في يومين متتاليين عندما نجحت قوات المقاومة ليل الأحد (11/11/2018) في رصد وحدة القوات الخاصة الإسرائيلية التي حاولت التسلل إلى شرق خان يونس، واشتبكت معها وطاردتها وقتلت أحد أبرز قادتها، ولم ينقذها غير الغطاء الجوي الكثيف وطائرات الهليوكوبتر التي جاهدت لاختطاف أفراد القوة والقتلى والمصابين من أرض المعركة، وعندما ردت على العدوان الإسرائيلي المكثف يوم وليل الإثنين (12/11/2018) بغارات الطائرات والقذائف الصاروخية، فقد ردت المقاومة بإطلاق 200 صاروخ أصابت سديروت وعسقلان وشعار هنيغف وكيبوتسات أخرى من «غلاف غزة» بعمق تجاوز 20كم، لم تستطع القبة الحديدية إلا التصدي لـ 20 منها بينما وصلت الباقية إلى أهدافها، وأجبرت سكان تلك المستعمرات على اللجوء إلى الملاجئ والنزوح منها ووضعت الكيان أمام أكذوبة «ديمومة الاحتلال».

لم يستطع الإسرائيليون تقديم تفسير رسمي ومقنع للهدف الذي تسللت من أجله تلك القوة من قوات الكوماندوز إلى تلك المنطقة من خان يونس، وكل ما فعلوه أن الجنرال احتياط تل روسو القائد السابق لما يسمى «الجبهة الجنوبية» خرج لينفى على شاشات التلفزة الإسرائيلية أن هدف العملية كان هو «اغتيال القائد الحمساوي نور الدين بركة» الذي استشهد في الاشتباك مع تلك القوة. خرجت تفسيرات كثيرة تتحدث عن أسباب تلك العملية ما بين محاولة اختطاف شخصية كبيرة في حركة حماس ربما تكون يحيى السنوار زعيم حركة «حماس» وما بين محاولة جمع معلومات أو إطلاق أسيرين موجودين لدى حركة «حماس»، أو جمع معلومات عنهما، أو تخريب جهود مصر مع حماس لإنجاز تهدئة في قطاع غزة، لكن الثابت أن الأسباب، وإن كانت قد تعددت، فإن الفشل بقي هو النتيجة الوحيدة القادرة على دحض «ترهات» وافتراءات وأكاذيب نيتانياهو حول مفهوم «الاحتلال»، وحول أكذوبة نجاح «القوة في الانحراف بحقائق التاريخ». ستبقى الأرض العربية أرضا محتلة إلى أن يتم تحريرها وستبقى إسرائيل دولة احتلال شاءت أم أبت.