بقلم: الدكتور أحمد يوسف
في الستينيات وقبل الهزيمة، لم يكن من الممكن أن تكون شاباً فلسطينياً مثقفاً وألا تكون ناصرياً.. فالناصرية كانت تعني الوعي والثورة والنضال لاسترداد عروبة الأرض والوطن السليب.
نضجت رؤانا في السياسة والتربية الوطنية مع خطابات الرئيس جمال عبد الناصر (رحمه الله)، والتي كانت عناوينها أن "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، و"أن تحرير الأرض واجب مقدس لا يمكن أن نتهاون فيه لحظة".
قبل هزيمة 1967، كان فتحي الشقاقي طالباً في الثانوية العامة، وكان يمتلىء حماسة ووطنية، وقد ساقه هذا الإحساس الكبير كغيره من الشباب إلى اعتناق الفكر الناصري، والذي عاش له وتشرّبه بكل وجدانه، إلا أن تلك الهزيمة كانت قاصمة للظهر، حيث أصيب معها الشقاقي بالصدمة والذهول، وهي حالة أخذته بعد شهور من التأمل والاستغراب للبحث عن طرح فكري آخر يعيش معه بقلمه وبندقيته مناضلاً من أجل شعبه وقضيته.
يتحدث الشاب فتحي الشقاقي عن تلك المرحلة التي أعقبت الهزيمة وشعر فيها بغصة الوطن الضائع، قائلاً: "إن الفكر الذي قُدِّم لي في تلك الفترة لم يكن مقنعاً للأشهر التي قضيتها متألماً ومسحوقاً، لم يقدم التفسير الفعلي لأسباب الهزيمة، بينما كان الفكر الإسلامي الذي جاء أكثر إقناعاً بالنسبة إلىّ.. لقد أجاب الفكر الجديد عن العديد من الأسئلة التي كنت أطرحها بعد الهزيمة النكراء؛ من نحن، ولماذا نُهزم، ولماذا انتصرنا سابقاً، وخسرنا الآن؟؟.
الشقاقي: النبوغ الفكري والنضالية الثورية
بعد عام على الهزيمة، بدأت التوجهات الإسلامية تظهر بشكل واضح على فكر الشقاقي ولغة خطابه، وتحول إلى طاقة عطاء وانتماء، وتحرك بهمِّة وحيوية جعلت من بيته محط رحال للكثير من شباب الحركة الإسلامية، وصارت تلك الجلسات بمخيم الشابورة بمدينة رفح في قطاع غزة بمثابة ساحة لسجالات الرأي والحوار، ومدرسة فكرية لتلقي دروس الوعي والثقافة والإلهام. كانت مفرداته السياسية ونبرة خطابه الإسلامي في سياقها الوطني ورؤيته حول القضية الفلسطينية تستحوذ على حركيته الدعوية، وأخذت تجليات إمكانياته القيادية تبرز منذ بدايات ارتباطه التنظيمي عام 1968، حيث تبدى للجميع أنه شخصية متميزة واستثنائية تمتلك الكثير من الكاريزما والمواهب والقدرات، التي جعلت منه حقيقة شاباً سابقاً لزمانه في الفهم والرؤية والتحليل. ولذلك، أسند إليه الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) قيادة تنظيم طلاب قطاع غزة المتواجدين للدراسة في الضفة الغربية.
وعندما حمله تفوقه وتميزه الدراسي للدراسة في مصر، بعد تخرجه من كلية بير زيت، كان خطابه يلقى القبول والإعجاب بين زملائه الطلاب في جامعة الزقازيق، كما كان مقر سكنه - وكما عهدناه دائماً - محط رحال لكل المثقفين الباحثين عن الحقيقة والخلاص الوطني.
كان د. الشقاقي صاحب قلم ورؤية وبعد نظر، وقد أهلته تلك الملكات الفكرية ليجد له في مجلة "المختار الإسلامي" المصرية صفحات بانتظاره، وقد أسهمت كتاباته في تحريك الوعي بين شباب الصحوة الإسلامية في مصر، وخاصة مع مقالاته عن القضية الفلسطينية وتحليلاته لمجريات الثورة الإسلامية في إيران.
الشقاقي: المهم أن نلتقي ونتحاور
في الحقيقة، لم تكن تباينات الرأي تستفز د. الشقاقي، فقد تعود القول بأن الاختلاف هو طبيعة البشر، ولكن المهم كيف نلتقي، ونحت مقولته الشهيرة "الوحدة من خلال التعدد"، ولذلك احتضن الجميع، واتسع صدره لكل من خالفوه.. وربما يلحظ هذا الأمر كل من عايش د. الشقاقي عن قرب، حيث كان في كل مراحل حياته مع الإخوان أو بعد خروجه منهم وتأسيسه لحركة الجهاد الإسلامي، وانفتاحه بعد ذلك على كافة القوى والفصائل الفلسطينية، كان دائم الحرص على مد يد التواصل والحوار مع الجميع، وكان رأيه طالما أن هناك لقاء ودائرة لتبادل الرأي والمشورة فسوف نجد مخرجاً للتفاهم والتوافق حول عملنا النضالي ورؤيتنا الوطنية.
لعل هذه المنهجية في الانفتاح على الآخر، والتعامل معه وفق القاعدة الذهبية "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"، كانت هي المحرك لشخصيته وأسلوبه في العمل مع الآخرين من القوى الدينية والوطنية؛ إسلامية أم علمانية.
الشقاقي: من حركة الإخوان إلى الجهاد الإسلامي
خلال سنوات دراسة د. الشقاقي في مصر في السبعينيات، لم تظهر لديه أي نزعة للانفصال عن حركة الإخوان المسلمين، ولكن كان واضحاً أن له ملاحظات على الأداء الإخواني، وكان يضغط باتجاه ضرورة التحرك لمواجهة المشروع الصهيوني، ومحاولة الاستفادة من تجربة الثورة الإسلامية في إيران.
كانت نجاحات الثورة الخمينية في اسقاط نظام الشاه وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران تستحوذ على كتابات د. الشقاقي، ولاقت تحليلاته اعجاباً وقبولاً واسعاً في أوساط الشباب الإسلامي، وخاصة بين الطلاب الفلسطينيين الدارسين في الجامعات المصرية، إلا أن أفكار الشقاقي في الوقت نفسه قد أخذت تشكل مخاوف وهواجس أمنية لدى قيادات التنظيم الفلسطيني في مصر، والذي كان يعرف -آنذاك – باسم "تنظيم بلاد الشام".
في أواخر السبعينيات، كانت الصحوة الإسلامية في أوجِّ عنفوانها، وكانت المخاوف من انفجار الوضع هي هاجس الجميع، وقد حرص الإخوان في قيادة "تنظيم بلاد الشام" الحفاظ على سرية العمل الإخواني وكبح فورة العواطف الجياشة لدى البعض بخصوص انتصار الخميني والثورة الإسلامية في إيران، حتى لا تعطي ذرائع لأجهزة الأمن المصرية باعتقال الشباب وترحيلهم إلى قطاع غزة أو الأردن.
تصاعد الخلاف مع د. الشقاقي لعدم الانضباط التنظيمي، وشعرت قيادة "تنظيم بلاد الشام" في مصر؛ وهي شخصية أردنية من أصول فلسطينية، بأن الخطر بات قريباً، وأن هذه التجاوزات قد تؤدي إلى ملاحقة التنظيم أمنياً، ولذلك تمَّ اتخاذ قرار بتجميد د. الشقاقي أولاً، ثم فصله بعد ذلك.
وحول هذه القضية، أشار د. موسى أبو مرزوق في كتابه "مشوار حياة"، قائلاً: "لم يكن خلاف د. فتحي (رحمه الله) خلافاً فكرياً أو منهجياً أو بسبب القضية الفلسطينية، حيث إن معظم ملاحظات الأخ فتحي كانت تتمحور على الإدارة والقيادة في حركة الإخوان عموماً، وفي فلسطين خصوصاً، وكان تقييمي –آنذاك – أن هناك صنفين من الناس: المتقدم كثيراً، ولا يستطيع أن يتأقلم إخوانه معه، أو أن يتأقلم هو معهم، أو المتأخر الذي لا يستطيع أن يلحق بإخوانه.. الصنفان يحتاجان إلى معاملة خاصة، حتى لا تخسرهم الجماعة أو يخسروا أنفسهم في العمل التنظيمي، ولو كان لي رأي في موضوع الأخ د. "فتحي" في ذلك الوقت لرفضت الفصل".
ومن باب الإنصاف للحقيقة، إن الإخوان المسلمين لم يختلفوا يوماً على فكرة الجهاد والمقاومة لمواجهة المشروع الصهيوني، ولكن كانت لهم تحفظات على توقيت الانطلاق، من حيث اكتمال إمكانيات الإعداد والاستعداد وقوة الاستطاعة، فالحركة الإسلامية التي كان الإخوان المسلمون عنواناً لها كانت تراهن على التغيير الذي سيأتي بدولة التمكين، والتي ستعزز قدراتهم في حشد وتعبئة الأمة لمشروع التحرير والعودة.
الخلاف مع د. الشقاقي: أصل الحكاية
ومع انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1978، تفجرت قناعات د. فتحي الشقاقي بأن الظروف قد نضجت الآن على مستوى الأمة، وخاصة مع تعاظم حراك الصحوة الإسلامية في معظم الدول العربية، ونداءات الإمام الخميني الداعمة لفلسطين، والمطالبة بإزالة الغدة السرطانية المسماة بإسرائيل.
كان د. الشقاقي تحركه ديناميات وعيه الناضج بطبيعة الصراع، وفهمه المتقدم بتجارب نضالية عربية كالثورة الجزائرية، والتي ألهمته مقولات رجالها لتجاوز حالة الانتظار لدولة التمكين، والذي تمحورت حولها رؤية الإخوان المسلمين؛ باعتبار أن غياب دولة عربية أو إسلامية قوية وداعمة للفكرة والحركة الإسلامية، فإن إمكانيات تحقيق النصر تصبح موضع نظر.
كانت المقولة الشهيرة للعربي بن مهيدي؛ المناضل الجزائري، "ارموا بالثورة الى الشارع يحتضنها الشعب"، تستحوذ على تفكير د. الشقاقي (رحمه الله)، حيث كانت قناعاته بأن الحالة الفلسطينية الإسلامية قد نضجت للثورة، فأخذ مع نهاية السبعينيات في التنظير لفكرته، وحشد من شاركه الرأي من شباب الإخوان الدارسين في مصر للتحرك لتجسيد ما تمَّ اعتباره رؤيته الخاصة، وحاول أن يضع بعضاً من أفكاره في كتاباته التي نشرها بمجلة "المختار الإسلامي" باسم عز الدين الفارس، والتي وجدت لها قبولاً واسعاً في أوساط الشباب الفلسطيني، وشكلت مع كتابه "الخميني.. الحل الإسلامي والبديل" بدايات التأطير لنهج قد لا يلقى القبول الكافي لدى الحاضنة الإخوانية، التي كانت تراهن على انتظار "دولة التمكين".
ومع عودة د. الشقاقي إلى قطاع غزة، حاول الشيخ أحمد ياسين استيعاب بعض ما كان يطالب به د. الشقاقي، إلا أن الشيخ أحمد كانت قناعاته مثل الآخرين: لا يمكننا أن نبدأ دون ظهر قوي يدعمنا؛ أي "دولة التمكين"!!
لم يكن من السهل تطويع د. الشقاقي الذي ألهبته نجاحات الخميني وثورته الإسلامية، وظل مشدوداً إلى فكرته بضرورة العمل المسلح، والانطلاق بمن معه من إخوة شاركوه الرأي والقناعة.
أتذكر حواراً جرى بين د. فتحي الشقاقي وبين د. موسى أبو مرزوق في القاهرة، وكان الأخير هو المسئول الأول عن التنظيم آنذاك، حيث عرض د. الشقاقي فكرته حول الانطلاق باتجاه العمل العسكري، فكان جواب د. أبو مرزوق الذي يكن للأخ فتحي محبة ومكانة عالية: يا أخ فتحي.. نحن اليوم قلَّةٌ يتخطفنا الناس من كل جانب، ونحتاج أن تنمو وتتوسع قدرات التنظيم، وأن نجد من دول الجوار من يأخذ بأيدينا ويدعمنا في مسيرتنا الجهادية. نعم؛ أنت يا أخ فتحي طاقة متقدمة، ولكن باقي إخوانك ليسوا مثلك.. أنت مثل الفارس الذي انطلق على ظهر فرسه وسط الصحراء، وجماعته خلفه تتحرك ببطء على عربة كارو.. وفجأة ظهر أمامه الأعداء بكثرتهم عدداً وعدة، فالتفت الفارس إلى قومه فلم يجد أحداً منهم إلى جانبه!! يا أخ فتحي.. عليننا أن نتريث لنهيئ الجميع، ونُمكن القافلة من المضي على خطى وعزيمة رجل واحد.
بدأت النبتة التي غرسها د. الشقاقي خلال سنوات الدراسة في مصر تكبر ويشتد عودها في القطاع، وتكاثرت الأعداد حول فكرته، وأصبح لها رجال يحاججون بها ويدافعون عنها.
ومع تباين المواقف واختلاف الرؤية بينه وبين إخوانه في قيادة حركة الإخوان المسلمين في قطاع غزة حول منهجية مشروع الجهاد والمقاومة، وتوقيت التحرك باتجاه العمل العسكري، ظهرت ملامح الصراع بين الطرفين "لإثبات الوجود" في أوائل الثمانينيات، واتخذت أحياناً منحىً عنفياً، كما شاهدنا في أحداث الجامعة الإسلامية عام 1983، الأمر الذي دفع د. الشقاقي ليتحرك باتجاه إنشاء حركة الجهاد الإسلامي.
من الجدير ذكره، أن الخلاف في تلك المرحلة لم يكن على الميراث النضالي لحركة الإخوان المسلمين، ولا كان الحوار متعلقاً بدور الجماعة التاريخي أو مبرر وجودها واستمرارها، بل كان أساساً حول تجديد برامجها ورؤاها، وفاعلية دورها في اللحظة المعاصرة.
كان د. فتحي الشقاقي حتى اللحظة الأخيرة من حياته بالغ التأثر بحسن البنا وبرؤيته الثاقبة لعصره وبمثابرته، والإنجاز الكبير الذي حققه؛ باعتباره أبرز المناضلين الإسلاميين في النصف الأول للقرن العشرين، بيد أن د. الشقاقي كان قد بدأ يدرك أيضاً أن الأسئلة المطروحة أمام جيله قد اختلفت عن تلك التي واجهها حسن البنا.
الشقاقي: البوصلة وقارب النجاة
كان د. فتحي الشقاقي لديه قراءة متقدمة للخارطة السياسية على الساحة الفلسطينية، وكان يمتلك وضوحاً في الرؤية والمسار ومعالم الطريق، وقد تحددت أبعاده بالقول: "منذ نشأتنا في فلسطين قررنا أن لنا عدواً واحداً وأساسياً، هو العدو الصهيوني، وأن الصراع فقط هو مع هذا العدو، وأن ما تبقى هو مجرد خلافات فكرية أو سياسية مع القوى الفلسطينية المتواجدة على الساحة، وأن العنف موجَّه فقط ضد العدو الإسرائيلي، أما الأطراف الفلسطينية التي نختلف معها فلا يمكن أبداً أن ندخل معها في صراع أو صدام.. أنا فقط أحاورها وأناقشها بشكل هادئ وموضوعي، لا يجلب أي استفزاز، ولا يجرنا لأي معركة.. نعم؛ هناك خلاف قائم بيننا وبين المنظمات والحركات الوطنية على أكثر من صعيد فكري وسياسي"، ولكن هذا يمكننا بالحوار أن نجد مخارج له.
رحم الله د. فتحي الشقاقي، كان رائداً في فكره الجهادي وحركيته الدعوية، اختلف مع البعض ولكنَّ صدره اتسع للجميع.