د. فايز رشيد
الشعوب المحتلة أرضها والمغتصبة إرادة أبنائها، تبتكر كلّ يوم أشكال مقاومة جديدة ضد المحتلين المتغطرسين. قرأنا كثيراً عن أشكال المقاومة للشعب الفيتنامي ضد محتلي أرضه الأمريكيين. الشعب الفلسطيني هو أيضاً يبتكر مقاومته المتوائمة مع تضاريس أرضه. فلسطين تخلو من الغابات وسلاسل الجبال التي يمكن لها أن تكون ملجأً أميناً للمقاومين.. رغم ذلك، اجترح الشعب الانتفاضة كشكل احتجاجي على المحتلين الصهاينة. الانتفاضة دخلت إلى القاموس السياسي العالمي. لقد تراوحت أشكال مقاومة الشعب الفلسطيني بين الكفاح المسلح، باعتباره الشكل الأرقى لها والأكثر تأثيراً في العدو، مروراً بالحجر، والنقيفة، والسكين، وأعواد الثقاب، وإطارات السيارات، والطائرات الورقية (التي شبهها المحتلون بطائرات الفانتوم - بل أطلقوا عليها ذات الاسم)، وصولاً إلى وسائل جديدة، جرت تسميتها ب «وسائل الإرباك الليلي» للعدو، الذي يقف محتاراً تائهاً في كيفية معالجتها، رغم قتله المستمر لأبناء وبنات الشعب الفلسطيني، فقد بلغ عدد شهداء مسيرات العودة نحو (197) شهيداً وشهيدة منذ 30 مارس/آذار الماضي حتى اللحظة.
نعم، مع حلول الليل يبدأ فتية فلسطينيون بقرع الطبول والأغاني، فيما يطلق آخرون بالونات حارقة أو مفرقعات بهدف إزعاج «الإسرائيليين» الذين يسكنون قرب السياج الحدودي مع قطاع غزة. لقد شكل أبناء الشعب الفلسطيني مؤخراً، مجموعات تسمى «وحدات الإرباك الليلي» تضم مئات الشبان والفتية، تتلخص مهمتها في خلق أجواء «رعب وإزعاج» لآلاف السكان الصهاينة في المستوطنات والبلدات الزراعية الحدودية، ولمئات الجنود المحتلين الذين يراقبون الحدود من أبراج مراقبة عسكرية، أو في مواقع أقيمت مؤخراً خلف تلال رملية على طول الحدود الشرقية والشمالية للقطاع المحاصر منذ عشر سنوات. كلّ ليلة يتجمع مئات من الشبان على بعد عشرات الأمتار من السياج الفاصل، القريب من برج المراقبة في محيط الموقع العسكري لمعبر كرم أبوسالم، المحاذي للسياج الفاصل في رفح، ويقيمون فعاليات على وقع الطبول والأغاني والدبكة الفولكلورية فيما يسمى ب«الإرباك الليلي».
أيضاً، ووفقاً لما ذكرت الأنباء، فإنه في الخيم التي نصبت على بعد عدة مئات من الأمتار من الحدود، يتجمع شبان آخرون، يبدؤون بنفخ بالونات، يضعون فيها مواد حارقة ويطلقونها باتجاه المناطق «الإسرائيلية»، والتي تؤدي إلى حرق مساحات من الأراضي المزروعة. في الأثناء يبدأ بعض الشباب في نفخ أبواق مزاميرهم، ويطلق آخرون من وراء تلال رملية، قنابل صوتية يدوية ومفرقعات مصنوعة من مواد بدائية. وفي ذات الموقع يوجد بعض الشبان الملثمين الذين يطلقون على أنفسهم اسم مجموعات «أبناء محمد الزواري» (نسبة لمهندس الطيران التونسي الذي اغتاله مجهولون في تونس في 2016)، كما يجري إعداد طائرات ورقية يثبت فيها عدد من المواد الحارقة التي تطلق أيضاً باتجاه المناطق القريبة المحتلة في عام 1948. من الوسائل الجديدة أيضاً، يصنع الشبان الفلسطينيون مجسمات لحوّامات صغيرة، تحمل شعلاً يركّبونها على بالونات ويطيّرونها باتجاه المناطق المحتلة.
من جانب آخر وحول رد فعل المستوطنين، صرّحت روني كيسين الناطقة باسم المجلس المحلي في «كيرم شالوم» الواقعة قرب حدود غزة لصحيفة «هآرتس»: «إن التظاهرات الليلية تشكل كابوساً لنا، فقد بدؤوا بإلقاء قنابل صوتية، والأمر مخيف جداً، إنها وسائل خطيرة جداً وتعتبر فعلاً مثل سلاح حيّ». هذه الفعاليات الليلية تتم يومياً منذ أسابيع. إن الإرباك الليلي يمثل «بداية» لمرحلة متطورة في الاحتجاجات التي بدأت في 30 آذار/مارس الماضي للمطالبة برفع الحصار الصهيوني عن القطاع، وهي أيضاً تأكيد شعبي فلسطيني على حق اللاجئين «في العودة إلى بلداتهم وقراهم ووطنهم وبيوتهم التي هجروا منها» قبل سبعين عاماً.
حقيقة الأمر، أنه ومنذ انطلاق مسيرات العودة، التي تزامن بدؤها مع ما يسمى «صفقة القرن» الأمريكية - الصهيونية لتصفية القضية الفلسطينية، والقرار الأمريكي حول القدس، وسنّ «إسرائيل» ل«قانون القومية» الفاشي العنصري، فإن الرد الشعبي الفلسطيني لم يتوقف عن محاولة إسقاط كل هذه المحاولات في مهدها، وهي تأكيد أيضاً على حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطنه، وهي إثبات مباشر على أن المستوطنين لن ينعموا بالهدوء على أرض يفتقدون الانتماء إليها، بالرغم من مرور سبعة عقود على الإنشاء القسري لدولتهم.